صراحة نيوز – بقلم د. محمد أبوحمّور
وزير المالية الأسبق
أمين عام منتدى الفكر العربي
سوف أتناول موضوع التعليم العالي والتعليم عن بعد في إطار عالميته وعولمته من زاوية اقتصادية ، خاصة وفي ضوء ما فرضته جائحة انتشار فيروس كورونا من استحقاقات عاجلة على العالم أجمع، ومن قبلها المتطلبات التي جاءت بها الثورة الصناعية الرابعة بشأن أبعاد التعليم عن بُعد ومنها البُعد الاقتصادي.
أن اقتصاديات التعليم ومخرجاته وتأثيرات أوضاعه واستراتيجيات التطوير في مجالاته المختلفة ترتبط بجوانب حيوية من الحياة الاقتصادية والتقدم والحقوق الأساسية للمواطنين في كل بلد، كما لا تنفصل عما تشهده التكنولوجيا المعاصرة من تطورات متسارعة تعمل مع الزمن على تغيير وجه الواقع وأنماط المعيشة والعمل والتعليم بمختلف مستوياته .
وأشير هنا إلى مؤشرات لمجموعة البنك الدولي تفيد بأن 60 بالمئة فقط من سكان العالم يستخدمون الإنترنت، فيما يوضح تقرير موقع يسمى “هوت سويت” أن 71 بالمئة من سكان منطقة الشرق الأوسط يستطيعون الوصول للإنترنت، لأسباب اقتصادية وأخرى تتعلق بإمكانات متواضعة لشبكات الاتصال بالإنترنت في بعض الدول، الأمر الذي يفرض على الحكومات والأجهزة المعنية اتخاذ التدابير لتعزيز قدرة مواطنيها على الوصول إلى الأدوات التكنولوجية وضمان توفر البنى التحتية الملائمة وذلك لتسيير العملية التعليمية أو التعلم عن بعد بجودة وتكلفة مقبولة، مراعاةً لمبادىء المساواة والعدالة الاجتماعية والحق في التعليم.
إن الأردن الذي يعمل وفق التوجيهات الملكية على مأسسة تجربة التعليم عن بُعد، يسجل خطوات متقدمة في الاتجاه نحو التعليم الإلكتروني، تدريساً وتقييماً، باعتباره خياراً استراتيجياً للدولة كما نصَّ على ذلك أمر الدفاع رقم 7، وبحسب قرارات مجلس التعليم العالي أيضاً فإن الأهداف تلتقي على الارتقاء بالتعليم العالي، والتأسيس لمرحلة جديدة من التقدم وزيادة التنافسية، وتحقيق العدالة والمساواة بين الطلاب كافة.
ورغم أن الظرف الحالي والزمن المتاح في ظل الجائحة لتطبيق تجربة التعليم الإلكتروني محلياً، لم يتوفرا على خيارات متعددة من حيث الاستجابة السريعة والتعامل بأقصى الممكن مع هذا التحدي، إلا أن تطبيق هذه التجربة مع ما رافقها من ملحوظات وأصداء هنا وهناك، هو بحد ذاته يشكل اختباراً عملياً للإيجابيات والسلبيات تحت مجهر الواقع، مما يجعل التقييم والمراجعة المستمرة من ضرورات البحث عن الأساليب الأنجح والحلول الأفضل.
وهكذا سنجد على سبيل المثال أن تدريس العلوم الإنسانية عموماً عن بُعد أيسر من تدريس العلوم التطبيقية التي تحتاج العديد من تخصصاتها إلى دراسات ميدانية وتطبيقات عملية ومختبرية مباشرة، وخاصة في الطب والصيدلة والهندسة بفروعها والزراعة وعلوم الكيمياء والبيولوجيا والفيزياء، وغيرها.
لكن ذلك لا يمنع من القول بأن التعليم عن بُعد هو التحدي الذي يشكل فرصةً في نفس الوقت، بمعنى أن التحدي القائم يتمثل في توسيع نطاق التعليم ليصبح تعليماً مستديماً، والتحول من تعليم يمنح الشهادات للطلاب إلى تعليم يؤهل الطلاب، ويزودهم بالمهارات الضرورية لدخول سوق العمل والإنتاج في عصر الذكاء الصناعي والتكنولوجيا التي غيّرت وستغيّر مستحدثاتها بدورها هيكلية الوظائف والتوظيف، ومدخلات العملية الإنتاجية، وبالتالي الأنماط الحياتية والعلاقات الاقتصادية والمالية ليس داخل المجتمعات فقط وأنما أيضاً على الصعيد الدولي بين التكتلات الاقتصادية العالمية.
وليست الجامعات ومعاهد التعليم العالي بمنأى عن كل هذه التحولات، بل هي في صلب عملية التغيير والتطوير، والقاعدة الأولى لتكوين عناصر الترابط المطلوب بين التكنولوجيا والبحث العلمي واقتصاد المعرفة والمجتمع المنتج، سواء من خلال التعليم أو التدريب، مما سيؤدي إلى نشوء منافسة شرسة بين الجامعات في العالم في حال الاعتماد الكامل على التعليم عن بُعد، وإلغاء شرط الإقامة في البلد التي تتم الدراسة فيها؛ أي بلد المقر للجامعة التي يلتحق بها الطلاب القادمون من الخارج .
تبعاً لذلك ستواجه الجامعات والاستثمار فيها تحدياً متعدد الجوانب، ولتوضيح طبيعة هذا التحدي نأخذ نموذج الجامعات التي تعتمد بنسب مرتفعة على الطلاب القادمين من بلدان اخرى وخاصة الخليج العربي، الذين سيجد كثيرون منهم، مع اعتماد التعليم كلياً عبر الإنترنت مستقبلاً وخاصة في الكليات الانسانية، فرصاً مُيسرة إلى حدٍ ما للحصول على قبول من الجامعات, بحيث لا تعد تكاليف الإقامة والسفرعائقاً للدراسة في تلك الجامعات.
وليس هؤلاء فقط ممن ستتاح لهم خيارات الدراسة في جامعات من هذا النوع، بل سيكون أمام الطلاب الأردنيين على سبيل المثال او الطلاب الذين يدرسون في جامعات داخل بلدانهم نفس الخيارات للتعلم عن بُعد في جامعات مرموقة عالمياً وخارج بلدانهم، ودون اعتبار تكاليف السفر والإقامة كما لو كان الحال باشتراط الإقامة في مكان الدراسة.
وهذا سيقلل من عدد الطلاب الذين يلتحقون بالجامعات الخاصة المحلية بشكل ملحوظ، ولا سيما إذا قامت الجامعات العالمية بتخفيض رسوم الدراسة فيها تبعاً لانخفاض تكاليف المرافق وبعض النفقات التشغيلية في موازناتها.
ثمة جانب آخر في السيناريوهات المطروحة لمستقبل لا يبعُد كثيراً في التعليم عن بُعد، وهو الجانب المتصل بما سبق ذكره من جهة أن الجامعات العالمية قد تلجأ إلى زيادة قدرتها الاستيعابية من الكفاءات التدريسية لتلبية متطلبات الأعداد المتزايدة من الطلاب المنتسبين إليها.
وهذه الكفاءات المرشحة للاستقطاب موجودة في العالم كما هي موجودة في العديد من الجامعات العربية، ومنها الجامعات في الأردن، ما يعني أن الكفاءات العربية والأردنية، بما فيها الكفاءات التي تعمل في جامعاتنا، يمكن أن تفتح لها الفرص للتدريس عن بُعد في جامعات عالمية، سواء في الغرب أو الشرق، ولست بحاجة إلى المضي في شرح النتيجة المترتبة على حرمان قطاع التعليم العالي من كفاءات محلية تتوافر لها الفرص المغرية في الخارج، فيما هي قادرة على أن تثري تجربتنا في التعليم عن بُعد إذا ما أُحسن تهيئة الظروف للاستفادة من إمكاناتها.
وأود ان اشير هنا انني تحدثت عن التعليم في الاردن كمثال افتراضي ينطبق على مختلف البلدان التي تستقطب طلاباً من دول اخرى وتعتمد في جانب من دخلها القومي على ذلك.
يرى البعض اننا توسعنا في التعليم وتراجعنا بنوعيته، ويأتي التعليم عن بعد ليضع التعليم على قدم المواساة في المنافسة المحتدمة على المستوى العالمي. ان المنافسة ان لم يتقنها الافراد او المؤسسات او الشركات بشكل عام سيجدوا انفسهم خارج السوق، لذلك علينا تحسين نوعية مخرجات التعليم وجودته للمحافظة على حصتنا من هذا السوق او زيادتها. ويتطلب ذلك مراجعة وتقييم المسيرة التعليمية في ظل هذا التحدي لنحافظ على سمعتنا المتميزة على المستوى العربي.
إن الإعداد للتحدي الهائل في مستقبل التعليم الإلكتروني يتطلب من مؤسسات التعليم والتعليم العالي على السواء أن تأخذ في الاعتبار ما أكده جلالة الملك عبد الثاني ابن الحسين – حفظه الله ورعاه – مراراً من أهمية وعي التحديات وتحويلها إلى فرص.
ولعل فرصتنا سانحة للتحرك بأفضل السبل لمواصلة الإصلاح الشامل لقطاع التعليم بالاستفادة من ميزة تقدم الأردن في مجال تكنولوجيا المعلومات، لتصبح الضرورة المُلحّة الآنية أولوية للحاضر والمستقبل تصب في الصالح العام للبلد وتجاوز تداعيات أزمة كورونا.
وكذلك أهمية الاستنارة بآفاق توجيهات جلالة الملك المتعلقة بالحفاظ على جودة التعليم وتعزيز المحتوى الدراسي عبر الشبكة العالمية، ووضع خطة متكاملة للتعلم عن بُعد للمدارس والجامعات، ومشاركة المدرسين من خلال الأخذ بملاحظاتهم، خصوصاً في مجريات التعلم عن بُعد ميدانياً، وللحديث بقية حول موائمة مخرجات التعليم مع وظائف المستقبل في ظل التعليم عن بعد والثورة الصناعية الرابعة وغيرها من المواضيع.