صراحة نيوز – بقلم د . صبري الربيحات
في مختلف ارجاء العالم غالبا ما ينهي الساسة والقادة والرؤساء رحلة خدمتهم العامة بكتابة المذكرات، هذه المدونات غنية بالأحداث والوصف والفكر السياسي الذي يسهم في بناء الروح المعنوية للامة ويزود الآخرين بالخبرة والحكمة واليقين والاستعداد لمجابهة المخاطر والصمود واكثر من كل ذلك تفصح عن جوانب من عبقرية الأمة التي ينتمي لها الكاتب.
المذكرات التي تتحدث عن رحلة ونستون تشرتشل وقيادته لبريطانيا في أحلك ظروف الحرب والتحول من الهزيمة الى النصر بقيت ملهما للأجيال من الساسة والعسكريين في بريطانيا والعالم وقدمت للعالم وللتاريخ وصفا دقيقا للثقافة الانجليزية وقيمها ومعنى المواطنة والصمود وأسس بناء الدولة واحترام مؤسساتها وواجبات الجميع في الحفاظ على ما هو مشترك من افكار وتصورات وقيم ضرورية للنهوض. ومثلما عمل تشرتشل كان تشارلز ديغول الجنرال الذي خاض الحرب وتحول الى تأسيس نهج سياسي عرف باسمه. مثل ديغول وتشيرتشل كتب القادة والسياسيون في العالم مذكرات عن سيرتهم وتجاربهم وافكارهم ومواقفهم اصبحت وثائق تاريخية مهمة يعود لها الدارس والمحلل والمؤرخ ويتعلم منها الكثير.
بلادنا كانت وما تزال تفتقر الى من يدون بجرأة وحرية التجربة التي عاشها باعتبارها تقريرا مستقلا عن السنوات التي قضاها في خدمة الأمة. في الأردن وبالرغم من تزايد محاولات قدامى الساسة والرؤساء ومن عملوا في الشأن العام لكتابة مذكراتهم ونجاح البعض في اضاءة جوانب من آليات وظروف صناعة القرار إلا أن البعض الآخر لم يتجاوز العرض لخواطر وتداعيات مشبعة بالإنسانيات التي تجعل منها اقرب ما تكون الى وثيقة تفسيرية تستدرك الحكمة في مسيرة ومواقف الاشخاص الذين أعدوها.
قبل أعوام تعرفت عن قرب على أحد الأشخاص المعروفين جيدا في طول البلاد وعرضها. خلال اللقاءات التي كانت تحدث على هيئة ندوة الذكريات كان الحديث يجرنا الى مواقف ومراحل وحقب من تاريخ الامة والبلاد التي شهدها او شارك فيها. طوال الجلسات المتكررة لا أذكر اني سمعت من الرجل اضافة واحدة على ما هو معلوم او متداول في الشارع الأردني. في كل مرة كنت اسأل نفسي فيما اذا كانت الروايات الرسمية المدونة دقيقة الى الحد الذي لا يمكن لأحد ان يضيف عليها او ينتقص منها ؟ أم أن صاحبنا لا يرغب في الخوض في هذه الشؤون او اذا ما كان الرجل شاهدا لم ير شيئا؟
في عالمنا العربي توجد رواية رسمية واحدة ولا يسمح بوجود روايات اخرى. بعيدا عن الفضاء العام هناك روايات متعددة عن كل حقبة او حادثة او جزء من التاريخ. مع مرور الايام يصبح التاريخ سجلا لروايات السلطة وما تقوله لنفسها وللآخرين عن نفسها.
في الحالات التي تم فيها التدوين جاءت بعض المذكرات لتسلط الضوء على الادوار التي لعبها صاحبها وللتذكير بما قام به ولم يصل للناس ولتقول بصورة غير مباشرة انه صاحب مآثر لم ترد في الخطاب الرسمي بوضوح. المذكرات التي طرحها بعض اصحاب الدولة الأجلاء بدت كملاحق تفسيرية لإثبات أن صاحبها كان موجودا وفاعلا في صناعة مواقف محددة وانه قال اشياء لم تدون في الرواية الرسمية لذا وجب التنويه.
في بلادنا حيث المسايرة والمجاملة ومركزية الدولة في حياة الاشخاص الذين عملوا على خدمتها واصبحوا معتمدين عليها يحرص كل من كان في السلطة على إدامة علاقة حسنة مع الدولة واركانها ويحاول ان يتجنب الحديث في الشأن العام ويعبر عن مواقفه غير القابلة للتغير حيال كل ما تقوم به الدولة ومؤسساتها.
المشكلة التي تواجه من يكتبون المذكرات أن أصحابها يناورون كثيرا ويعملون على فلترة وتنقيح الرواية ومراجعتها لضمان ألا تكون جارحة وتبقى غير واضحة لتكون خالية من التفصيلات وبحيث لا تزعج بعض من يطلع عليها او تلحق الضرر بسمعة أي من الاشخاص من ذوي العلاقة.