صراحة نيوز – بقلم موسى العدوان
نسمع ونقرأ لبعض الكتاب والمتحدثين، أن القوات المسلحة الأردنية قد قصّرت في حروبها الماضية، لدرجة أن بعضهم يتهمها ( ظلما )، بالانسحاب من الضفة الغربية في حرب حزيران 1967 دون قتال. ولهذا وجدت من المناسب أن أصحح مفهوم هؤلاء، سواء كان حديثهم عن جهل أو عن حقد، رغم مرور ما يزيد عن نصف قرن على وقوع تلك الحرب، متوخيا إيضاح ثلاثة أهداف هي :
- أن التاريخ يحب أن يكون حاضر دائما في الأذهان، لمعرفة ما جرى خلاله، واستنباط الدروس المفيدة للمستقبل. وقد قيل في هذا المجال : ” من شاء الحكم على المستقبل، فليبدأ باستشارة الماضي “.
- تذكير الأجيال الحالية واللاحقة بما قدم الآباء والأجداد من تضحيات، في سبيل الحفاظ على الوطن، ومراعاة أن هذه الأجيال يجري تجهيلها، وإبعادها عن ذكريات الماضي وتزوير حقائقه.
- لكي يعرف الناس كيف تتم المقامرة بمصائر الشعوب، دون وازع من ضمير أو مخافة من الله تعالى.
- القوات المسلحة الأردنية قدمت الكثير من التضحيات، التي كانت تفوق قدراتها المادية، رغم أنه جرى خداعها من قبل بعض الأشقاء وأوقعوها في شرك فقدت على أثره نصف مملكتها، وبالتالي تُنسب لها تهم التقصير الكاذبة. وهذا ما دفعني للكتابة في هذا الموضوع إبراء للذمة، ودحضا للأكاذيب المختلقة بطرح الحقائق الدامغة. وسأقدم الموضوع للقراء الكرام بشكل مختصر على ثلاث حلقات كالتالي :
- * *
في تلك الظروف السياسية والعسكرية المتوترة والتي كانت سائدة في شهر أيار 1967، قام الملك حسين رحمه الله بزيارة خاطفة إلى جمهورية مصر العربية، وتم توقيع معاهدة دفاع مشترك بين البلدين بتاريخ 30 أيار 1967. وعلى ضوء ذلك، جرى تشكل القيادة العربية الموحدة، وعين الفريق المصري عبد المنعم رياض قائدا للجبهة الشرقية التي تضم الأردن، سوريا، والسعودية. وبدأ البحث بالخطط العسكرية لمواجهة الموقف المتأزم في المنطقة.
كان على رأس تلك الخطط توحيد رموز الإنذار بين هذه الجيوش. تستخدم الرموز بكلمة واحدة للإبلاغ عن حالات الخطر المستعجلة، بعيدا عن استخدام الشيفرة التي يحتاج حلها إلى بعض الوقت. وكان الرمز المتفق عليه وإرساله بواسطة جهاز اللاسلكي، للإنذار بوجود طائرات معادية في الجو هو كلمة ( عنب ). ولكي تكتمل الصورة لدى القارئ الكريم، اسمحوا لي أن أتوسع في بعض التفاصيل المتعلقة بهذا الموقف، كما جاءت في مذكرات الفريق أول محمد فوزي وزير الحربية المصري الأسبق، تحت عنوان ” حرب الثلاث سنوات 1967 / 1970 “.
كان نذير المعركة هو إرسال إنذارين تعبويين في غاية الأهمية : الأول من مكتب مخابرات العريش، بقيادة المقدم ايراهيم سلامه، إلى جهة غير معنية بالعمليات ومكتب الوزير شمس بدران بكوبري القبة، في الساعة السابعة صباحا، بينما وصل إلى هيئة عمليات القوات المسلحة بالقيادة العامة في الساعة 40 : 9 من صباح يوم 5 / 6 / 1967.
أُرسل الإنذار الثاني من الفريق عبد المنعم رياض الذي كان بالقيادة المتقدمة لنائب القائد الأعلى بعمّان في الساعة السابعة صباحا أيضا، ولكنه لم يُستقبل بالجهة المعنية، وهي غرفة عمليات الدفاع الجوي بمنطقة الجيوشي إطلاقا. وأقول أنه لو وصل هذان الإنذاران صباح يوم 5 / 6 / 1967 قبل بدء العمليات بساعة ونصف، لكانت على الأقل قد تغيرت الحوادث عما وقع فعلا صباح ذلك اليوم.
تجمعت لدى الدوريات الأمامية لوحدات نطاق الأمن، مشاهدة أنوار وسماع أصوات عربات جنزير في مناطق فتح وحدات العدو واستعداده للهجوم حوالي الساعة 4 صباح يوم 5 / 6 / 1967. وصلت هذه المعلومات إلى مكتب مخابرات العريش، الذي كان يعمل كمركز استطلاع تعبوي للجيش في نفس الوقت. وأرسل المركز إشارة في الساعة 7 صباحا من نفس اليوم إلى قيادته العليا بمكتب وزير الحربية شمس بدران بكوبري القبة. استقبل الضابط المناوب في كوبري القبة هذه الإشارة، وأرسلها إلى مكتب المشير حيث كان نائما في القيادة العامة بمدينة نصر.
بين الساعة 15 : 8 والساعة 30 : 8 صباح يوم 5 حزيران، أقلعت من مطار الماظة طائرتان من طراز إليوشن 14، الأولى تحمل المشير عبد الحكيم عامر القائد العم للقوات المسلحة، والفريق أول صدقي محمود قائد القوات الجوية والدفاع الجوي، ورئيس هيئة العمليات متجهة إلى بئر ثمادا في سيناء، والثانية تحمل رئيس وزراء العراق يرافقه حسين الشافعي متجهة إلى مطار أبو صوير للزيارة، حيث أعلن العراق استعداده للمشاركة العسكرية مع مصر.
وكانت قيادة الدفاع الجوي قد أصدرت أرا إلى جميع المطارات وجميع عناصر الدفاع الجوي بين القاهرة وسيناء، بالتوقف عن إطلاق النيران في المدة بين الساعة 8 إلى السعة 9 صباحا لعبور الطائرتين. طار المشير بطائرته حتى عبر قناة السويس، حيث أخطره قائد الطائرة بمشاهدة نيران في مطارات القناة.
وبعد الاتصال مع احد هذه المطارات، تأكد المشير بأن الضربة الجوية الإسرائيلية بدأت، وأن جميع المطارات تُضرب في وقت واحد، ولم تمضِ على إقلاعه من مطار الماظة سوى 20 – 30 دقيقة فقط. وكانت الطائرة الثانية قد وصلت إلى مطار أبو صوير قبل الضربة بدقيقة أو دقيقتين. والمعروف أن الأوار المستديمة تقضي بفتح النيران عند حدوث اي اعتداء مباشر، بالرغم من تقييدها لأي سبب.
استلم هذه الإشارة المقدم علي شفيق صفوت مدير مكتب المشير، وعرضها عليه في غرفة نومه عقب استلامها، أي حوالي الساعة 7 صباحا. ولم يعلق المشير أو المقدم علي شفيق صفوت بأي تعليق على فحوى الإشارة. إلاّ أنني فهمت بعد ذلك متأخرا في نفس اليوم إي 5 / 6 / 1967، أن هذه الإشارة وصلت إلى هيئة عمليات القوات المسلحة، في الساعة 40 : 9 أي بعد حدوث الهجوم الفعلي. كما أن قيادة الجيش، وقيادة الجبهة، لم لم تبلّغ القيادة العامة بأي هجوم على القوات الأمامية، إلاّ حوالي الساعة 30 : 8 أيضا في نفس وقت الضربة الجوية الإسرائيلية تقريبا.
عندما وصل هذا الإنذار إلى المقدم إبراهيم سلامة في الساعة 4 صباحا، وبعد أن قام بالتأكيد والتجميع للمعلومات، حلّل هذا الخبر تحليلا خاطئا، وذيل الإشارة المرسلة بالآتي : ” إن الوحدات الأمامية لإسرائيل على كلا المحورين الشمالي والأوسط تقوم بتغيير قواتها من احتياطي المنطقة “. ولم تكن هذه التحركات سوى التحركات النهائية لوحدات العدو الأمامية للفتح التكتيكي على كلا المحورين استعدادا للهجوم على قواتنا في سيناء صباح يوم 5 حزيران 1967.
التاريخ : 10 / 7 / 2021