العروض السياسية التي تابعناها خلال الأشهر الستة المنصرفة، عكست مسارين: أحدهما ما تفكر به الدولة، وما جرى داخل “مطبخ” السياسات من نقاشات، لترسيم خطوط التعامل مع القضايا الكبرى، وتحديد بوصلة السياسة تجاهها، والآخر سلوك الدولة، وحركة أدواتها التنفيذية والتشريعية لإخراج المرسوم السياسي، وإقناع الرأي العام به، أو صناعة المناخات العامة لتمريره. صورة المسارين، كما وصلتنا، كانت لافتة، وربما صادمة، سواء على صعيد التناقض بين ما يتم الترويج له وبين ما حدث في الواقع، أو على صعيد الاختلاف بين الفاعلين داخل ” السيستم”، حول ما خرج من المطبخ السياسي أولا، وكيفية التعامل معه ثانيا، قلت: الاختلاف، حتى وإن كان في إطار تقاسم الأدوار وتوزيعها. للتوضيح أكثر، ما حدث في المطبخ السياسي بدأ بتشكيل لجنة ملكية في حزيران الماضي، أنيط بها مهمة تحديث المنظومة السياسية، حظيت مخرجاتها بضمانة ملكية، وتوافق سياسي مقبول، ودعم أمني معلن، وحين وصلت للحكومة أكدت أنها ستقدمها للبرلمان كما هي، بدون أي تعديلات أو إضافات. بالمقابل، جاء السلوك السياسي متباينا تماما، فقد أضافت الحكومة تعديلات دستورية لمقترحات اللجنة، ولم تقدم ما يلزم من أسباب موجبة لها، ثم فاجأت الرأي العام “بإعلان النوايا” مع إسرائيل وتوقيف الطلبة والناشطين الذين اعترضوا عليه، في خطوة فهمت بأنها “تعكير” للمناخات الشعبية التي حاولت اللجنة ترطيبها. وفي موازاة ذلك، خرج رئيس اللجنة الملكية، سمير الرفاعي، بتغريدة استنكر فيها الإجراءات الأمنية، ثم بتصريحات انتقد فيها، ضمنيا، الحكومة، وذكرها بأن ” سيدنا يريد أن نتقدم للأمام”، وأن الملك جاد جدا بالإصلاح، ولا يسمح لأحد أن يتدخل فيه، أو يثنينا عن المسار الديمقراطي الذي بدأناه. المفاجأة الأخرى، جاءت من مجلس الأعيان، إذ قوبلت التعديلات الدستورية التي اقترحتها الحكومة بموجة من الانتقاد والرفض في جلسة قراءة غير رسمية، أبدى فيها عدد من كبار الأعيان، من بينهم رئيس لجنة التعديلات الدستورية في اللجنة الملكية، تحفظهم على صيغة دسترة مجلس الأمن الوطني، وعلى بعض التعديلات الأخرى التي اعتبرها بعضهم تجاوزا على الدستور، وإخلالا بروحه القائمة على مبدأ التوازن بين السلطات، وتلازم السلطة مع المسؤولية. مثل هذه الوقائع والردود (الألغاز إن شئت) تثير العديد من الأسئلة، أبرزها: ماذا تريد الدولة من عملية التحديث السياسي، ومن يمثل وجهة نظرها ويفكر عنها ويتحدث باسمها؟ هل المقترحات التي قدمتها الحكومة تمثلها فقط ولم تستشر القوى والمرجعيات الأخرى حولها؟ ثم لماذا لم تدرج أصلا للنقاش من خلال اللجنة الملكية ولم تخرج في توصياتها؟ هل تتعارض مع الضمانة الملكية التي يذكرنا بها الرفاعي في تصريحاته؟ وماذا عن مجلس الاعيان ( مجلس الملك) الذي تحفظ أعضاء معتبرون فيه على هذه المقترحات؟ الإجابات هنا مهمة، لأنها تعكس حالة الدولة، وحركة الفاعلين السياسيين فيها، كما أنها تتعلق بقضية كبرى، هي “الدستور”، الذي يفترض أن يحظى التعامل معه بما يلزم من اتفاق وانسجام، بين المشاركين في صناعة القرار. الآن، يبدو أن الحكومة ستكون أمام مفاجآت غير متوقعة، ليس فقط من قبل قوى سياسية تعودت المعارضة أو المناكفة، ولا مجرد نيران صديقة تبحث عن نصيبها من كعكة السياسة، (لاحظ أنني تعمدت عدم الإشارة لمجلس النواب)، وإنما من مرجعيات وأطراف معتبرة، أبرزها مجلس الأعيان، الذي استبق، على غير العادة، نقاشات البرلمان للتعديلات الدستورية، ليبعث رسالة مفادها أن الحكومة انفردت بالتعديلات لوحدها، وأنه غير ملزم بالموافقة عليها كما جاءت، أما لماذا، فمن المبكر التكهن بمعرفة ذلك أو الحديث عنه.