تتزامن مناسبة مرور أربعين عاماً على تأسيس منتدى الفكر العربيّ، أقدم مؤسسات الفكر العربية، مع الذكرى الخامسة والسبعين لميلاد صاحب السموّ الملكي الأمير الحسن بن طلال، حفظه الله ورعاه، فقد ولد سموّه في العشرين من مارس/ آذار في العام 1947. واتسمت حياة سموّه ومسيرته بالعطاء والإنجاز على المستوى الوطنيّ والقومي والإنسانيّ، فقد ظلّ مواكباً لكلِّ التَّطوّرات السياسية والإقليمية والدوليّة خلال عقود عمره المديد بإذنه تعالى، وعلى اتصالٍ وثيق مع منابع الفكر العربيّ والعالميّ، وغطّت نشاطات سموّه حقلاً واسعاً من مجالات اهتماماته الثقافية والفكرية والتنموية. ويبرز في كل مجالات أنشطته الفكرية والعمليّة البُعد الإنسانيَّ، والتركيز على قدسيّة الحياة البشرية والكرامة الإنسانية وحماية البيئة الطبيعيّة والإنسانية على السواء، ووفق مبدأ وحدة الحضارة الإنسانية لتفعيل القواسم المشتركة بين الحضارات. من أهم وأكبر إنجازات سموّه خلال هذه المسيرة المشرقة هو تأسيس منتدى الفكر العربي، هذه المبادرة التي قام بها عقب مؤتمر القمّة الاقتصادي العربي في عمّان (25/10/1980) مع نخبة من المفكرين وأصحاب الرأي وقادة العمل التنموي في الوطن العربي، فقد أدرك سموّه ببصيرته الواعية أهميّة إعادة بناء المشروع الحضاري العربي، وبلورة فكر عربيٍّ معاصر موجَّه لحركة الحياة، مؤكداً الارتباط بين الفكر والمواطنة، استجابة للمتغيرات المتسارعة في عالَمنا، وضمن تخطيط استشرافي قادر على المواءمة بين الأصالة والمعاصرة والثابتِ والمتحوّل. ومن أجل ترسيخ هذه الرؤيا في واقع عمليٍّ شرع في استقطاب الكفاءات الفكرية العربيّة، لتلتقي في حوار خلّاق ومُنتج يُمنهجُ الأُسس والمنطلقات والغايات التي أرسى معالمها سموّه للمتحاورين من أصحاب الفكر. وقد أشار سموّه إلى غايتين رئيستين لمنتدى الفكر العربيِّ المنشود – حينذاك – كما تدلّنا على ذلك أدبيات التأسيس للاجتماع الذي دعا إليه سموّه في مدينة العقبة (13-15/3/1981) وتبلورت خلاله فكرة وجود هذا المنتدى التي تستند فلسفته إلى إبداع الأفكار والتصورات التي تُبنى عليها المواقف العمليَّة المرتبطة بأولويات المنطقة العربية؛ وتوعية المواطن ومُتَّخذ القرار بهذه الأفكار، بحيث يصبح المواطنُ دعامة لها، فينتقلُ من متلقٍّ للأفكار إلى متفاعلٍ معها. وكذلك ليعتمد صاحبُ القرار الأسلوبَ العلميَّ في النظر إلى المشكلات التي تواجه المواطن. فالهدف الرئيس من هذا المنتدى كما وفق هذه الرؤية العملية كما عبَّر عنه سموّه منذ البدايات هو دعم المسيرة العربية نوعيّاً لتحقيق النماء وترسيخ الانتماء. وقد أراد له سموّه أن يكون منتدىً فكرياً حرّاً يتمتع باستقلال إداريٍّ وماليٍّ خارج نطاق الأنظمة العربيّة الرسمية وشبه الرسميَّة. وانطلاقاً من هذا التأطير المنهجيّ لمنتدى الفكر العربي، فقد جعل المواطن العربيّ بؤرة غاياته ومنطلق اهتماماته، ما يعني تعميق التواصل والاتصال بين الفكر والمواطن، وبعبارة أوضح بين الفكر ومؤسسات المجتمع المدنيّ، لحفز الأغلبية الصامتة على المشاركة في بناء المستقبل العربيّ. وبهذه الرؤية الثاقبة تمكّن المنتدى من تحويل الفكر إلى استراتيجيات عمل. لقد بلور المنتدى رؤى سموّه على صعيد العمل الوطني والإقليميّ المشترك في إرساء آليات التطوير والتحديث. وإيماناً من سموّه بأننا نعيش في عالمٍ متغيّر تنحسر فيه الحدود الإقليمية في الاقتصاد والثقافة والتكنولوجيا، وتتفاعل فيه مفاهيم متعلقة بالسلعية والتنافسية، وكلّ ما تمثّله العولمة، فقد استشرف سموّه والمؤسسون الأوائل من النخب العربية كل ما يجري في عالمنا من تحوّلات متسارعة، وكان سموّه منذ البدايات دائم التركيز على أهمية طرح التساؤل حول مّا يمكن أن يفعله الفكر العربيّ ودور المنتدى إزاء تلك التحديات؛ متطلعاً إلى أن تنتظم المنتديات المتشابهة في شبكة عربية متفاعلة، تتقاسم الأدوار، وتتكامل فيها المَهمّات وتُتَبَادل المعلومات على طريق تشكيل تيار فكري عربي متقدِّم، تتحوّل فيه الرؤية النخبوية إلى وعي جماهيري، يُعلي من شأن التنمية المستدامة. ومن أجل تحقيق الرؤى المستقبلية لسموّه، فقد أرسى محاور أربعة تشكّل وتتشابك مع سيرورات أخرى إقليميّة وعالميّة، وتتمثل في مخاطبة مشكلات المواطن العربي في جوانبها الإنسانية المباشرة، والبحث في القضايا الكبرى سواء أكانت هذه القضايا طبيعية كالموارد، أم سياسية اقتصادية أو تكنولوجية. وكذلك البحث في القضايا السياسية التي تتطلب قاعدة فكرية جديدة أساساً للتعامل معها. وأخيراً التجسير الفكري مع الثقافات الأخرى. ومن هذه المنطلقات حظيت قضايا الحريات، والديمقراطية، والأمن الإنساني، والتعليم، والفقر، واللجوء، والهجرة، بالعناية والاهتمام في مشروعات المنتدى وندواته وحواراته العربية – العربية، والعربية – العالمية ومؤتمراته، فضلاً عن مشكلات المياه، والبيئة، والتصحّر، والطاقة، والعلم، والتكنولوجيا، والتصنيع. ولم تكن قضايا السلطة والمؤسسية، والقانون، والحاكمية الرشيدة، والتعايش والتنوع الديني والمذهبي والعرقي والثقافي، في منأىً عن اهتمامات المنتدى عبر مسيرته طوال الأربعين سنة الماضية، بفضل جهود مؤسسه وراعيه صاحب السمو الملكي الأمير الحسن بن طلال. إنَّ سؤال المستقبل هو الضرورة التي يعوّل عليها سموّه، فأسئلة الفكر العربيّ حول الحاضر كثيرة ومتشعبة، لهذا أكّد دائماً أنَّ الإجابة على سؤال المستقبل تشتمل الأبعاد الفلسفية والثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فالتكامل المعرفيّ ينبغي أن لا يغيب عن الوعي الكلّي بالقضايا المصيرية كما يراه. كما أن تحديد ملامح المستقبل وإعادة بناء المشروع الحضاري العربي يتطلبان إعادة النظر في طبيعة الفكر العربي المعاصر، وتحديد المنطلقات المعرفية له والمحددات المنهجية لعمل هذا الفكر وقضاياه. فإشكاليات النهضة الفكرية العربية مشروطة معرفياً وتاريخياً بميراثنا الثقافي، وبشبكة علاقات المجتمع العربي بذاته وإطاره الإسلامي الأوسع، ومجاله الإنساني الأشمل. وضمن هذه الرؤيا الاستشرافية لسموّه نهض منتدى الفكر العربي برسالته متسلّحاً بالحوار والانفتاح على الذات والآخر، والمتابعة والتقييم، في سبيل بناء مرجعية فكرية حديثة تصل الأمّة العربية بالتيارات العلمية والأدبية والفنية في العالم الحديث. لقد كان الفكر وضرورته في عمليات التطوير والتحديث عنصراً مركزياً في فكر سموّه؛ إيماناً منه بأنّ الفكر هو الحامل المنهجي لكل التصوّرات والأفكار، والقادر على استقراء الواقع واستشراف المستقبل بطريقة علمية. وهو ما يتطلب التشبيك بين مراكز البحوث والدراسات وصنّاع القرار في المراحل المفصلية من التغيير الاجتماعي والسياسي إذا كنّا راغبين في صُنع مستقبلنا. فالبحث في المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية يتطلب قاعدة فكرية جديدة تكون أساساً للتعامل مع إشكاليات القضايا في هذه الجوانب، ودراسة أبعادها وتشخيص تداعياتها. كثيرةٌ هي القضايا العربية والإقليميّة التي أضاء عليها سموّه ولفت انتباه العالم لها استشرافاً للمستقبل وتحدياته القائمة والقادمة، بما في ذلك مستقبل المواطن الإنسان، ومكانة الأمّة ومقدّراتها، ودور الفكر في التمكين للوعي المستقبلي. لقد توقّف سموّه في كتبه ومقالاته ومحاضراته ومؤتمراته عند قضايا تهمّ الإنسان والبيئة الطبيعية والفكر العالمي. وحظي برنامج» القدس في الضمير» الذي تبناه منتدى الفكر العربي برعاية سموّه الذي ظلّ متابعاً لكلّ ما يستجدّ على الساحة الفلسطينية والعربية والدولية، والخيارات الاستراتيجية المتاحة أمام الأردن وفلسطين، ومستقبل الدور الأوروبيّ إزاء القضايا العربية الراهنة، من منطلق قراءته الواعية للصراعات على القدس الشريف، وإلمامه العميق بتاريخية القدس ثقافة وتراثاً حضارياً. ومن منطلق وضع الإنسان في صُلب معادلة الكرامة الإنسانية ومواجهة التحديات الناجمة عمّا يفرضه الفقرُ من ظلمٍ على الإنسان، طرح سموّه مشروعاً تنموياً تأهيلياً من خلال توظيف أموال الزكاة في مشروعات استثمارية إنتاجية تعود بالنفع على المجتمعات في العالم الإسلامي وفقرائها، ومن هنا كانت دعوة سموّه إلى إنشاء» المؤسسة العالمية للزكاة والتكافل»، التي تتعزَّز بها المسؤولية الاجتماعية المشتركة بين المؤسسات كافة، ويتحقق من خلالها مبدأ الاقتصاد في خدمة التنمية، وتُجنِّب تفشي التهميش والإقصاء بأشكالهما المختلفة، وبما يضمن الأمن الإنساني ويدعم التعاون والتكامل بين الدول إقليمياً ودولياً وكذلك العلاقات الحضارية بين شعوبها. وعلى صعيد الفكر السياسي دعا سموّه إلى أنْسَنة البرلمانات السياسية وإقامة برلمانات إنسانية تأكيداً لكرامة الإنسان، وذلك بهدف الإفادة من التجارب العالمية وإعادة مَوْضعة الأمة العربية لذاتها في السياق العالمي ضمن إنسانويَّة عالمية تتعالى على الجنس والعِرق والديانة والمذهب. ولم تكن قضايا البيئة الطبيعة بمنأىً عن اهتمام سموّه وهو يعاين أزمة الاحتباس الحراري والتحديات المناخية وأثرها على البيئة الطبيعية والإنسان، وانعكاسات تأثيراتها على الموارد التنموية للمجتمعات. فآثار الجوائح والأزمات وتداعياتها الإنسانية والاقتصادية كانت محلّ نظر سموّه من منظور الدعوة إلى تفعيل تطبيقات الاقتصاد السلوكي وسياسات الضمان الاجتماعي في حالات البطالة والتهجير القسري والأوضاع الإنسانية في مناطق النزاعات. كثيرة هي القضايا التي حظيت باهتمام سموّه عربياً وإقليمياً، وكلّها مشروعاتٌ فكرية تنموية، إنسانيّة الغاية والهدف، واقعية الطرح والاستشراف المستقبلي والتكيُّف مع المتغيرات، في إطار التطلُّع إلى نهضة عربية شاملة قوامها المواءمة بين الفكر والمواطنة، فالنهضة في فكر سموّه عملية مستمرّة. وقد ترجم منتدى الفكر العربي من خلال برامجه وأنشطته المتعددة – ولا يزال – طموحات سموّه والنخب الفكرية والثقافية العربية في تخصصات متنوعة، ممثلةً في الكفاءات والخبرات التي تضمها عضوية المنتدى في الوطن العربي والمهجر، ومستنيراً بالأسس التي تضيء سُبُل العمل الفكري والقائمة على المؤسسية والتطوير والإنجاز. حفظ الله صاحب السموّ الملكي الأمير الحسن بن طلال، وأمدّ في عمره ومتّعه بموفور الصحة والعافية، وكلّ عام وسموّه بموفور الخير وسيظل مُحاطاً بالمحبّة والإعزاز والاعتزاز في قلوبنا ووجداناتنا.
– *الأمين العام لمنتدى الفكر العربي ووزير المالية والصناعة الأسبق