الأطباء في بلادنا يكتبون عموماً الوصفات والتقارير بخط غريب؛ من الصعب على غير الأطباء والصيادلة قراءة وفهم ما يدونونه في سجلات المرضى وبطاقات المراجعة ونماذج وصفات العلاج “الروشتات”.
خلال الأيام الأولى لالتحاقي بكلية الشرطة في نهاية سبعينيات القرن الماضي، كان التدريب مكثفا وشاقا. وكنت الأردني الوحيد في دورة إعداد وتأهيل ضباط عقدت خصيصا لمجموعة من أبناء دول عربية شقيقة. وفي كل يوم، وتحت ضغوط التدريب البدني الشاق، يشعر عدد من التلاميذ بالحاجة إلى زيارة الطبيب؛ إما بسبب الإجهاد، أو نتيجة إصابتهم بكدمات أو تشنجات وكسور، فيخبرون رقباء الخفر وقادتهم ويهيئون أنفسهم بعد أن يستلوا بطاقات المراجعة المرضية، ويحصلوا على توقيع رؤسائهم قبل أن يذهبوا إلى العيادات والمراكز الطبية والمستشفيات حسب ما تستدعيه حالاتهم.
بعض التلاميذ ممن لا يقوون على تحمل خشونة التدريب، كانوا يجدون في المراجعة الطبية ملاذا يعفيهم من عناء ومشقة الركض والتمارين الرياضية، والوقوف في طوابير المشاة لساعات طويلة. والبعض الآخر استخدم الاستراحة التي قد يمنحها الطبيب للمذاكرة والاستعداد للامتحانات المقبلة. لكن بعض المدربين كانوا يصرون على أن يحضر التلاميذ المرضى إلى الميادين، فيقفوا على جانب الميدان يشاهدون تدريبات الزملاء من دون المشاركة الفعلية في التطبيق للحركات والمهارات التي جرى عرضها وتعلمها في ذلك اليوم. والتلاميذ الذين تتكرر زياراتهم للمراكز الصحية، كانوا يوصمون بالتمارض، خصوصا إذا تبين أن لا إصابات أو أمراضا تستدعي العلاج أو الراحة. لذا كان يحرص المراجعون على إقناع الأطباء بحالتهم المرضية.
وإذا كانت نتائج التشخيص التي يدونها الأطباء تصعب قراءتها وتفكيكها، فإن الجزء الوحيد الذي يحرص الأطباء على كتابته بوضوح هو الجزء المتعلق بالاستراحة أو الإجازة. وفي كل مرة يعود فيها التلاميذ المركز الطبي، تتوجه عيونهم للبحث عما كتبه الطبيب في آخر السطر، ليتيقنوا أنهم قد حصلوا على الاستراحة المطلوبة. وأعلى درجات الرضا تتحقق للمراجع الذي يلمح في ذيل “خربشات” الطبيب عبارة “أسبوع ويراجع”؛ فهي تعني أن الطبيب اقتنع بشكواه، وأن أمامه أياما من الراحة.
في بلادنا، يعاني غالبية كبار السن من صعوبات الاستسلام لسلطان النوم؛ إذ ينتاب الكثير منهم القلق والأرق، ما يدفعهم إلى استشارة الأطباء والاستعانة بالمهدئات التي يعتقد أنها تساعد في النوم. وقبل أيام، اشتكى لي قريبي الثمانيني من أنه لا ينام جيدا، وأنه تعب من مراجعة الأطباء وتجريب وصفات الطب الشعبي التي لم تسهم في الحد من الأرق أو القلق. ومن دون كثير عناء، عادت ذاكرتي إلى أيام تدريبنا العسكري؛ يوم كنا نشكو من قلة الوقت المخصص للنوم الذي كنا نتوق للحصول ولو على ساعة إضافية منه. وقارنت بين ذلك وحالة عشرات الآلاف من الرجال والنساء وحتى الشباب الذين أصبحوا يعانون من الفراغ والملل والضجر ففقدوا شهيتهم للنوم.
العمل الجاد يكسب الفرد الكثير من الحيوية والنشاط، ويغذي إحساس من يعمل بقيمة وجوده ودوره وتأثيره؛ في حين تسهم البطالة والتعطل في التسيب والفوضى وقلة الانضباط والانحراف. البهجة التي يحصل عليها الجندي في وقت الإجازة، والعامل في أيام العطلة، مؤشرات على أهمية العمل في إعطاء قيمة ومعنى للوقت الذي يصبح لا معنى ولا قيمة له لدى المتعطلين.
في المؤسسات التي تتولى التدريب والتشغيل والإنتاج، للوقت معنى وقيمة وأثر تُظهر مهارة المدراء والرؤساء في إدارته واستثماره. والدول التي تتحدث عن موارد بشرية لا تستثمرها ولا تستخدمها، تغالط نفسها؛ فالهدر الحقيقي أن يبقى الأشخاص القادرون على العمل من دون أدوار، مهما صغرت وكبرت هذه الأدوار. فالتنظيمات الكفؤة هي التي تجد متسعا لطاقة ووقت وموهبة الجميع، وليس لنخبة قليلة على حساب الجميع.
عبارة “أسبوع ويراجع” كانت تعبر عن حصول البعض على امتياز الراحة من العمل في برنامج مكتظ. اليوم، الآلاف يبحثون عن أسبوع عمل، فيما ترتاح أبدانهم وتتعب عقولهم على مدار العام.
د . صبري الربيحات