صراحة نيوز – بقلم د. إبراهيم بدران
بعد خبرة 70 عاماً في استخراج ونقل وتسويق وبيع الفوسفات، قررت الحكومة عام 2007 أننا بحاجة إلى «شريك استراتيجي» لكي يشتري 37% من أسهم الفوسفات، التي هي بحكم المال العام، حتى يساعدنا على الاستخراج والبيع والتسويق، وكأننا نبدأ من الصفر.
وتبين أن المشتري شركة وساطة غامضة، يقال عنها تعمل لصالح سلطنة بروناي والتي ليس لها علاقة قريبة أو بعيدة بالفوسفات، وأن وراء الصفقة مصالح خاصة. ومع هذا قيل عنها حينئذ «شراكة استراتيجية». واليوم بدلاً من سعي الحكومة لاسترداد حصة الأردن تم البيع في الأسبوع الماضي إلى شركتين هنديتين (مع الاحترام للجميع) أطلق عليهما أيضاً ذات اللقب المهيب «شريك استراتيجي».
والسؤال لماذا هذه الشراكة المدعاة؟ ألم نتعلم على مدى 70 سنة؟ ألم نكتسب خبرة؟ ألم نتمكن من تفاصيل هذه الصناعة؟ لو أن الشريك الجديد كان ملزماً في عقد الشراء «باستثمارات إضافية لإنشاء منظومة من صناعات جديدة ومتخصصة تشكل إضافة صناعية» في الأردن، لكان الأمر -نوعاً ما- مفهوماً، ولكن لا أحد يعرف التفاصيل وإنما كلمة استراتيجي كافية لإسكات الجميع.
وبعد خبرة 50 سنة في استخراج البوتاس وتصنيعه وتسويقه وإدارته قررت «الإدارة» أننا بحاجة إلى شريك استراتيجي أيضا ليتولى التصنيع والاستخراج والإدارة، وطبعاً ملكية 27% من البوتاس. فجاء الشريك الكندي. أما خبراؤنا وإداريونا ومهندسونا، فيبدو أن «الإدارة الرسمية» لا تريد لهم أن يتعبوا أنفسهم.
لو أن الشريك الاستراتيجي الكندي أنشأ سلسلة أو منظومة من الصناعات القبلية والبعدية، وصناعات متفرعة عن البوتاس وفق خطة متفق عليها، ولو أنه جعل البوتاس قاطرة الصناعات الكيماوية الوطنية، وهكذا ينبغي أن يكون الأمر، لكان الأمر مقبولاً. ولكن كلمة استراتيجي هي الكلمة السحرية التي يتوقف بعدها أي كلام.
وبعد خبرة 50 عاماً من تكرير النفط ونقله ومناولته بكل نجاح وكفاءة، والتعامل مع الصناعة النفطية من خلال شركة مصفاة البترول الوطنية، أصبحنا اليوم بحاجة إلى تعويم المشتقات النفطية، لنفتح باب الاستيراد للمشتقات الجاهزة التي يتم تكريرها في بلدان أخرى، حيث توظف عمالاً وفنيين ومهندسين في تلك البلدان، وتحمل لاقتصاد تلك البلدان قيمة مضافة مستمرة. ولتبرير ذلك تم وصف المصفاة (افتراء) بأنها «قديمة» و»متهالكة» وكفاءتها أقل من 70%. وهذا كله غير صحيح. لقد أصبح في مفهوم الإدارة العجيب أن ليس من المهم أن تعمل مصفاة البترول الوطنية أو لا تعمل، أن نطورها أو لانطورها، أن تكون قلعة صناعية تنبثق عنها صناعات أخرى أو تتلاشى. هذا ليس مهماً في نظرهم، مقابل أن نستورد كل شيء جاهزاً، حتى لا نتيح فرصة لآلاف الأيدي العاملة أن تعمل، وحتى يبقى الهيكل الاقتصادي على حاله.
وبعد خبرة 50 عاماً في صناعة الأسمنت وإدارة مرافق هذه الصناعة أصبحنا بحاجة إلى شريك استراتيجي ليقوم بالعملية فجاءت شركة فرنسية لتأخذ الدور الذي كنا نقوم به، وأضافت إلى صناعة الأسمنت من خبرتها الهائلة أن أصبح التلوث في الفحيص أكثر مما كان، إلى أن تم القرار بنقل المصنع.
وبعد 60 عاماً في إدارة المياه قررت الإدارة أننا بحاجة إلى شريك استراتيجي لإدارة المياه فأصبحت الشركات الأجنبية تتولى إدارة جزء كبير منها.
وبعد 55 عاماً على إنشاء الجامعة الأردنية و50 عاماً على إنشاء كلية العلوم و50 عاماً على إنشاء سلطة المصادر الطبيعية وتخريج آلاف الجيولوجيين ومنهم الكثير من المتميزين، قررت «الإدارة» تفكيك سلطة المصادر الطبيعية، وبعدها أننا بحاجة إلى شركة عالمية لدراسة احتياطي البوتاس في البحر الميت،. أما علماؤنا وخبراؤنا وأساتذتنا ومهندسونا فلا لزوم لهم حسب تصرفات «الإدارة» في هذا الأمر.
وبعد 70 سنة على إنشاء خطوط المياه في المملكة تقرر أننا بحاجة إلى شركة تركية ومقاول تركي ومهندسين أتراك مع الإحترام لإنشاء خط مياه الديسي إلى عمان. أما مقاولونا ومهندسونا فلا لزوم لهم.
وبعد 80 سنة على انطلاق التعليم في الأردن ومساهمة الأردنيين من معلمين وأساتذة وخبراء وتربويين في النهضة التعليمية العربية وخاصة في الخليج وليبيا وغيرها أصبحنا بحاجة إلى شركات استشارية في التعليم وإلى مساعدة الدول الأخرى. وكذلك المطار والميناء والأسواق الحرة وغير ذلك الكثير.
وبعد 60 سنة على نشوء وتنامي الطبقة الوسطى وتماسكها وانطلاقها في المشاريع والتغيير والتطوير والفكر والثقافة، أصبحت هذه الطبقة اليوم، ونتيجة للسياسات ألإقتصادية الرسمية الخاطئة من الحكومات المتعاقبة، متآكلة ومهددة بالتلاشي.
وبعد 70 سنة من الخبرات في الأعمال المصرفية ووجود آلاف الأردنيين من المستثمرين والمهنيين المتميزين في هذا المجال أصبحت 52% من أسهم البنوك تعود لغير الأردنيين (مع الاحترام) وكذلك الشركات المساهمة العامة حيث 55% من ملكيتها تعود لغير الأردنيين.
وبعد 33 سنة على إنشاء وزارة الطاقة والثروة المعدنية وعملها بكفاءة تقرر «الإدارة» إنشاء هيئة تنظيم قطاع الطاقة والمعادن، وهيئة طاقة نووية لا تدخل تحت مظلتها لتعمل على مشاريع لا لزوم لها، وبعد 60 سنة على إنشاء وزارة النقل أصبحنا بحاجة إلى هيئة تنظيم قطاع النقل، وكذلك الاتصالات والإعلام وغيرها.
وبعد 60 عاماً من استكشاف الثروات الطبيعية الأردنية أصبحنا بحاجة إلى شركات دولية تتولى عنا كل ذلك. وبعد 50 سنة من الإذاعة والتلفزيون التي كانت برامجها غنية بالمواد الثقافية والفكرية والإعلامية الراقية أصبحنا اليوم نبحث عن محطات أخرى.
ما الذي يجري؟ هل نتقدم إلى الأمام أم نتراجع إلى الخلف؟ هل نعظم من موجوداتنا المادية والمالية، وخبراتنا الوطنية ورأسمالنا البشري أم نتخلص منها؟ هل نبني على خبرة أبنائنا وبناتنا ونفتح فرص عمل جديدة بمشاريع جديدة، أم نتجاهل هذه الخبرات ونحبطها ونهجرها؟ ونتجه إلى الاستيراد؟. استيراد السلع والطعام والمال والماكينات والخبراء وكل شيء؟. هل نسير في الاتجاه الصحيح في تنمية الاقتصاد ومواجهة الفقر والبطالة المتفاقمة، وتنمية المحافظات؟ أم سنتحول إلى «مستأجرين» نعمل في مشاريع ومرافق وثروات يملكها الغير؟ أليس كل ما يجري مخالفاً للدستور ولسلامة الوطن ومستقبله؟ لقد آن الأوان ومنذ سنوات أن نصحح الاتجاه وننظر بعين العقل والعلم إلى القرارات والإجراءات التي تحكم المسار الاقتصادي الاجتماعي للبلاد.