صراحة نيوز – بقلم موسى العدوان
يُمضي المتقاعدون العسكريون أجمل أيام شبابهم في الخدمة العسكرية، ويتقلدون خلالها مختلف الرتب العسكرية، يُنقلون من وحدة إلى أخرى وبما يناسب الرتب التي يحملونها. وبعد انتهاء خدمتهم والانتقال إلى الحياة المدنية، يجدون أنفسهم في بيئة مختلفة في طبيعتها عما اعتادوا عليه.
فاليوم يواجهون مجتمعا جديدا ورفاقا مختلفين عن رفاق الأمس، في جو يتصف بالليونة وعدم الاكتراث نسبيا بالوقت، فيجبر المتقاعد إن لم يكن لديه عمل آخر، أن يتأقلم بالجو الجديد الذي لم يعتد عليه.
ولكن عندما كنت أُنقل من وحدة إلى أخرى من مستوى قيادة الكتائب وحتى مساعدا لرئيس الأركان، كنت في أول يوم أدخل به لمكتبي، أنظر إلى لوحة شرف القيادة، لأتعرف عمن كان قبلي في ذلك الموقع، وأقول في نفسي ” لو دامت لهؤلاء لما وصلت إليّ “. ولهذا علي أن أترك بصمات واضحة في الموقع الذي أشغله، أساعد الناس وأنصفهم قدر استطاعتي، وخاصة المتقاعدين العسكريين الذي سبقوني في تحمل المسئولية. وفي هذا السياق سأورد المثالين التاليين فقط.
بالأمس . . لم أغلق الباب في وجه متقاعد، ولم أغلق هاتفي أمام متصل منهم، ولم أقل لسكرتيري أن يجيب الطالب بأنني في اجتماع صوري، أو خارج المكتب بخلاف الحقيقة، بل كنت استقبلهم وأسمع طلباتهم، بل وأتصل مع بعض الزملاء الذين أعلم عن وجودهم في منطقة عملي، لكي أقدم لهم أية مساعدة ممكنة. وعند المقابلات كنت ألبي الممكن منها، وأعتذر عن غير الممكن بكل احترام.
في أوائل عقد الثمانينات الماضي وعندما كنت ملحقا دفاعيا في لندن، كان مبنى الملحقية مؤلفا من طابقين، مكتبي مع مكتب مساعدي ألملحق الجوي في الطابق الأول، ومكاتب بقية ضباط الأركان في الطالق الرضي. في أحد الأيام اتصل بي ضابط الإدارة من الطابق الأرضي، وأعلمني بأن لديه زائر هو ضابط متقاعد اسمه عكاش الزبن، ويرغب بالاتصال مع مؤسسة معينة في برايتون.
تذكرت عكاش الزبن ( عليه رحمة الله ) ذلك اللواء الركن الذي كان قائدا للسلاح المدرع الملكي، بقامته الفارعة، وشخصيته المهيبة التي كنت أتمنى أن أكون مثلها حينما كنت ضابطا صغيرا برتبة ملازم أول وأنا اليوم برتبة عميد. فتركت مكتبي ونزلت على الدرج إلى مكان تواجد عكاش باشا، فأديت له التحية العسكرية ودعوته للصعود إلى مكتبي.
وبعد تكريمه علمت بأن له مصلحة في مدينة برايتون جنوب لندن بحوالبي 200 كيلومتر. فوضعت تحت إمرته سائقا وسيارة من الملحقية، لنقله إلى مقصده وقضاء حاجته. كنت أعلم أن عكاش باشا من أثرياء الأردن في ذلك الزمان، وهو ليس بحاجة لأن أقدم له وسيلة نقل، لكنني شعرت بأن هذا واجب عليّ تجاه من كان قائدا لتشكيلة عسكرية هامة وخدم في قواتنا المسلحة.
في أواسط عقد الثمانينات وبعد أن أنهيت عملي في ملحقية لندن وعدت إلى الأردن، عُينت مديرا لشؤون الضباط. وفي أحد الأيام طلب شخصان من عشسيرة العجارمة العريقة، مقابلتي في المكتب فرحبت بهما. وبعد تقديم واجب الضيافة سألتهما عن حاجتهما، فقالا أن لأحدهما إبنة يريدان توظيفها كضابط جامعي في الجيش. كان توظيف الإناث في الجيش في ذلك الحين غير شائع. فاستغربت الطلب وسألتهما : هل يعقل أن العجارمة يريدون توظيف ابنتهم في الجيش ؟ فقالوا نعم ولنا الشرف في ذلك، صرنا نوظف بناتنا في الجيش كبقية العشائر الأردنية هذه الأيام.
اعتذرت منهم بأن القائد العام الشريف زيد بن شاكر، قد أوقف التجنيد للإناث حقيقة هذه الأيام، لعدم توفر للشواغر لهن. فقالوا جئناك بالأمل . . هذه أول بنت عجرمية تحصل على شهادة جامعية ونريد توظيفها. فقلت : طالما أن هذه أصبحت حقيقة، فإني أعتبرها خطوة تشبه أول صعود للإنسان إلى سطح القمر . . ولهذا سأكسر أوامر القائد العام، وأوظفها متحملا مسئولية ذلك. وتم تجنيدها كضابط جامعي في الخدمات الطبية، حيث خدمت كنموذج للفتاة الأردنية المثالية مدة طويلة، إلى أن وصلت رتبة عقيد ثم أحيلت على التقاعد.
واليوم . . فإن ضباط القوات المسلحة وحتى حاملي الرتب العليا من المتقاعدين لسوء الحظ، لا يستطيعون زيارة مكتب أحد المدراء في القيادة العامة، وهي التي كانت بيتهم الأول قبل بيوتهم الخاصة، ولهم بها خدمات معروفة، ولكنها أصبحت محرمة عليهم هذه الأيام.
وإذا ما حاول الضابط المتقاعد الاتصال هاتفيا مع أحد المدراء على هاتفه الخلوي، لا يجد من يرد عليه بحجة أنه لا يعرف هوية المتصل. وإذا استطاع الوصول إلى السكرتير في مكتبه، تكون الإجابة : أن المدير خارج المكتب أو في الاجتماع، أعطينا رقم تلفونك لنتصل معك لاحقا وتكون هنا النهاية.
قد تكون الحاجة بسيطة ويمكن تلبيتها بسهولة، أو الاعتذار عنها بكلمة لطيفة في حالة عدم إمكانية تحقيقها. وعند الفشل في الوصول إلى المدير المعني من خلال الوسيلتين، سيضطر صاحب الحاجة الملحّة أن يبحث عن ( واسطة ) من قبل ضابط عامل ولو برتبة صغيرة، ليوصله إلى عطوفة صاحب الشأن.
لقد رأينا كيف يعامل المتقاعدون العسكريون في الدول المتقدمة بطريقة محترمة، وما هي الامتيازات التي تقدم لهم. وحتى في المجتمعات المدنية يحظون باحترام السكان، ويمنحون المتقاعد صاحب الرتبة العالية لقب ( Senior Citizen ).
والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو : أليس من العيب على بعض مسئولي هذه الأيام، إزدراء زملائهم ومن كانوا رؤساءهم أو معلميهم وعدم الوفاء لهم إلى هذه الدرجة ؟ في الوقت الذي يقول به جلالة الملك عبد الله الثاني المعظم : ” يجب احترام الضباط المتقاعدين ومعاملتهم كما العاملين “. ولكن بعض أصحاب العطوفة، يمارسون اليوم عكس التوجيهات الملكية عن قصد وسابق إصرار. فهل هذا يرضي عطوفة رئيس الأركان المشتركة ؟
ألا يعلم السادة إن مدّ الله بأعمارهم على ظهور صهواتهم، أنهم سينضمون في يوم قادم إلى صفوف من سبقوهم من المتقاعدين، وعندها سيصحون من غفلتهم ليقولوا : يا ليتنا قدمنا شيئا نافعا لحياتنا. ولعلم أولئك السادة، فإن كبار المتقاعدين العسكريين بشكل خاص، لا يريدون منكم جاها ولا أن تطعمون، بل يريدون احتراما بحكم ارتباطهم بقواتهم المسلحة، من خلال العادات والتقاليد العريقة التي درج عليها جيشنا العربي في سابق عهده.
فاحترام المتقاعدين العسكريين واجب على كل مسؤول وليس منّة. وعسى أن لا نقول في آخر المطاف، كما قال الشاعر في عجز بيت من قصيدته : ” وعلت ظهور خير المطايا شر فرسانِ . . ! “.
التاريخ : 25 / 11 / 2020