صراحة نيوز – بقلم موسى العدوان
” إن المواطن الذي يعيش في أمن حقيقي، هو وحده الذي يعرف كيف يموت بشجاعة في سبيل بلده. أما المواطن الذي يعيش في الخوف والرعب والفوضى، فهو لا يملك شيئا يعطيه لا لبلده، ولا لأحد من الناس. ومن غير النظام والقانون، لا يمكن لأي مجتمع في هذا العالم، أن يؤمّن لمواطنيه أمنا حقيقيا “.
” وصفي التل ”
يصادف يوم غدٍ السبت، ذكرى استشهاد وصفي التل، رئيس وزراء الأردن الأسبق، الذي اغتالته يد الغدر والخيانة بتواطؤ رسمي مدروس، جرى تنفيذه في القاهرة بتاريخ 28 / 11 / 1971. وبهذه المناسبة، أجد من واجبي أن أذكر بمآثر هذا الزعيم، شهادة أمام الله وإكراما لروحه الطاهرة.
وصفي التل رحمه الله، كان صاحب مشروع وطني ذو هدفين، الأول بناء المجتمع الأردني على أسس سليمة، والثاني تحرير الأراضي الفلسطينية المغتصبة. ففي المجال الأول قال وصفي : ” لابد من تحديد أمراض ومشاكل المجتمع قبل محاولة بنائه، حتى إذا ما عُرف المرض أمكن معالجة الداء “. وبناء عليه حدد دولته بأن تلك الأمراض ناتجة عن صفات بعض المسئولين التي من أهمها : الاعتذارية، القططية، النعامية، والتمنّن. وهي صفات سلبية لا أجد حاجة لتفسيرها.
شكّل وصفي التل أول وزارة أردنية له بتاريخ 27 كانون ثاني 1962 مؤلفة من 12 وزيرا، كانت باكورة أعمالها إنشاء الجامعة الأردنية. واستقالت حكومته بتاريخ 2 كانون أول من نفس العام. ثم أعيد تشكيل حكومته الثالثة بنفس التاريخ، فنفذت برنامج تنظيم الجهاز الإداري، والاهتمام بنشر التعليم في القرى والمدن. وفي حكومته الرابعة عام 1966 وضعت برنامج السنوات السبع للتنمية الاقتصادية، وإقرار التعليم الإلزامي لجميع الأطفال الذين هم في سن التعليم، ثم أنجز في عهدها شق قناة الغور الشرقية. وفي حكومته الخامسة عام 1970 كانت فترة عصيبة تولت خلالها إعادة الأمن والاستقرار للأردن.
ورغم مرور الزمن على استشهاد وصفي التل، إلاّ أن تلك الصفات الأربعة التي بينها في تشخيصه لأمراض المجتمع، ما زالت سارية المفعول من قبل بعض المسئولين هذه الأيام، وخاصة ممن هبطوا علينا بمظلات سوداء خلال العقدين الأخيرين. فنفّذوا تواصي أسيادهم الغرباء، وعاثوا في البلاد فسادا تتصدره مديونية فلكية، على مرأى ومسمع الجميع، دون خشية من الله أو وازع من ضمير.
وصفي التل كان الزعيم الوطني المخلص، الذي عشق الأردن بشعبه وأرضه وشجره، فاحترم الشعب وحرث الأرض في منطقة الأزرق وقرب بيته في الكمالية، ثم طلب من الفلاحين زراعة القمح تلك السلعة الإستراتيجية الضرورية. إضافة لذلك فقد وضع برنامجا لزراعة الجبال الجرداء بالأشجار الحرجية، نفذها طلاب المدارس من خلال معسكرات الشباب الصيفية، فحولها إلى غابات خضراء تسر الناظرين، وأطلق اسمه على بعضها.
وصفي كان رئيس الوزراء الذي فتح باب مكتبه لعامة للناس، يستمع لشكاواهم ومطالبهم، ويلبي الممكن منها. وهو من عُرف عنه خلال توليه المسئولية نظافة اليد، ومحاربة الفساد، والحفاظ على المال العام، وإنصاف المظلومين. وقصة المواطن المعروفة والذي قدم له طلبا للإفراج عن ابنه المسجون، فكتب وصفي إلى مدير المركز الأمني علي الطلب ” يلعن أبو وصفي الذي يُسجن الناس من شأنه ” فأطلق سراحه، هي نموذج لتسامحه وعطفه على المواطنين.
كان لوصفي بصمة مميزة في كل مجال من مجالات المجتمع. ففي عام 1963 قام وصفي رئيس الوزراء بزيارة إلى مدينة الخليل وكان برفقته المشير حابس المجالي وعدد من الوزراء. فقال له رئيس البلدية محمد الجعبري : أهالي الخليل عطشانين يا أبو مصطفى”. فالتفت وصفي إلى عمر عبد الله دخقان مسئول المياه في الأردن الذي كان يرافقه وقال له : ” يا عمر فيه بئر مياه بالقرب من مخيم الفوار جنوب الخليل، فرد عليه عمر : نعم أبو مصطفى، البئر ممتاز، ولكنه مغلق.
فالتفت وصفي إلى حابس باشا وقال له :” يوجد بالعقبة مواسير سريعة الربط، خلي هندسة الجيش تجلب المواسير وبدي الخليل تشرب من مياه الفوار خلال أسبوع “. فقام سلاح الهندسة بتوصيل المواسير ببعضها لمسافة 30 كيلومترا، وشربت الخليل من مياه الفوار فعليا خلال أسبوع.
وفي أوائل عام 1971 كنت قائدا لكتيبة الحرس الملكي الأولى ، مسئولا عن حراسة مباني مؤسستي الإذاعة والتلفزيون الأردنيتين. وفي أحد الأيام اتصل معي مدير الإذاعة السيد عبد الرحيم عمر، وأبلغني بأن رئيس الوزراء وصفي التل وقائد الجيش حابس المجالي سيحضران إلى الإذاعة. فاستقبلناهما سويا ودخلنا جميعا إلى مكتب مدير الإذاعة، وأنا لا أعلم ما هي الغاية من تلك الزيارة.
استدعى وصفي الملحّن جميل العاص وأجلسه معنا، ثم قال لمدير الإذاعة سمعّنا الأغنية وكيف قمتم بتلحينها. فانطلق صوت الفنانة سلوى العاص من خلال المذياع المحلي يصدح بأغنية ” اتخسا يا كوبان ما انته ولف إلي * * ولفي شاري الموت لابس عسكري “، بينما كان وصفي يسجل ملاحظاته على ورقة. ( وهذه الأغنية الحماسية كان قد نظم كلماتها الزعيمان وصفي وحابس، رفعا لمعنويات المواطنين ).
بعد انتهاء الأغنية أخذ وصفي يعطي إرشاداته إلى جميل العاص، حول استخدام الآلات الموسيقية في الأغنية قائلا: ( قرّب الآلة كذا على الميكرفون . . خفف صوت الآلة كذا . . أضف الآلة كذا للمجموعة . . خلّي الفنانة ترفع الصوت في الكلمة كذا وتخففه في الكلمة كذا . . ). ثم طلب إعادة سماع الأغنية عدة مرات، إلى أن أخذت الصيغة التي رضي عنها الإثنان.
جرى هذا أمامي وأنا أراقب هذا العمل مشدوها بما يجري . . رئيس وزراء يصحح عمل لفنان مخضرم . . شيء عجيب بالنسبة لي. وتذكرت في هذه اللحظات بأنني خسرت شيئا كثيرا في الماضي كان يمكن أن أتعلمه، عندما نُسبت مرافقا لرئيس الوزراء وصفي التل في عام 1963، ولكن أحد كبار القادة رفض ذلك التنسيب.
وحول هدف وصفي التل الثاني، الذي كان يتمثل في تحرير الأراضي الفلسطينية المغتصبة، فقد كان ذلك يشكل محط اهتمامه وفكره، فعبر عنه بقوله : ” إن مأساة الشعب الفلسطيني بالنسبة للأردن، ليست مأساة شعب شقيق، ولكنها مأساة الأردن وشعبه أولا وأخيرا “. وحين سئل اسحق شامير عن الشخصية العربية التي كانت تشكل تهديدا لإسرائيل، أجاب بأن وصفي التل هو الشخصية الأخطر على إسرائيل، لأنه كان يدعو دوما إلى اعتماد المقاومة الشعبية ضد إسرائيل.
وقد حاول وصفي تنظيم العمل الفدائي في الأردن، وحمل خطة تحريرية مقترحة، ليضعها أمام وزراء الدفاع العرب في القاهرة، ولكن يد الغدر والخيانة صبغت تلك الخطة بدمه الزكي قبل أن تصبغها دماء العدو.
لهذا أحب الأردنيون وصفي التل من شتى المنابت والأصول. وإن غاب عنا وصفي بجسمه منذ ما يقارب نصف قرن، إلاّ أن روحه الطاهرة ما زالت تعيش بيننا وفي أفئدتنا.
ولا يسعنا في هذا اليوم وفي كل يوم من بعده، إلا أن نترحم على شهيد الوطن وصفي التل ورفاقه، ممن صدقوا العهد مع الأردن وأهله. ونلعن كل من تآمر عليه خيانة للشعبين الشقيقين الأردني والفلسطيني، وجعل وصفي التل يغادرنا إلى جوار ربه، تاركا كرسيه فارغا ليس هناك من يشغله حتى الآن.
وأختم هذا المقال ببعض أبيات من قصيدة للشاعر المُبدع حيدر محمود :
قد عاد من موته وصفي ليسألني * *
هل ما يزال على عهدي به وطني ؟
ولم يقل إذ رأى دمعـي يـغالبنــي * * ألا كفى . . وأعيدونــي إلى كفني !
فباطن الأرض للأحرار أكرم من * * كل الذي فوق الأرض من عفــــنِ !
عن كل هم أنا المسئـول أدفع ما * *
لا يستـحق عليّ الدفــع من ثمــــن
دفعتُ حتى فواتير اللصوص وما * * أزال أدفعهــا في الســـرّ والعلــــن
يا خال عمار صار الناس مزرعة * * للمارقيــن وباتـــوا هم بــلا ســـكن
حتى الخرابيش لفّوها ورحل من فيها * * لكي يستروا العورات في المـدن
وسّــع لنا أبا وصفي فإن بنا * * شوقـا للقياك وافـرد رقعـة الكـفن
وقل لوصفي بأنا قادمون معا * * كـــي لا نصــلي بــعد الله للــــوثن
التاريخ : 27 / 11 / 2020
.