مع كل أزمة تداهمنا، كنت أسأل: لماذا لا يتحرك المسؤولون على الفور لمواجهتها، وتطمين الناس على أنها لن تتكرر، ليس بالتصريحات وتشكيل اللجان فقط، وإنما بالفعل المدروس والحلول الناجعة؟ إحدى الإجابات التي سمعتها على لسان أكثر من مسؤول كانت صادمة، قيل: ذاكرة الأردنيين “صغيرة” وقصيرة جدا، ومع تراكم المشكلات والهموم لم تعد تتسع، عادة ما ينشغلون، بفضل وسائل الإعلام والاتصال، أياما عدة بأي أزمة، ويقولون كل ما لديهم، ثم ينتهي الأمر، وينسون ما حدث، وهكذا دواليك. هل تعرفنا الحكومات أكثر من أنفسنا، وتتعامل معنا -بما يملكه المسؤولون فيها من مواهب- بمنطق “المداراة”؟ ربما، فهي أحيانا تضع على أجندة أولوياتنا قضية غير مهمة، وتنفخ فيها، فننشغل بها ونتصارع حولها، أحيانا أخرى تعيدنا الى الماضي البعيد، لنسبح في بحر الأمجاد والذكريات، ثم إنها إذا اقتضت الحاجة، تنثر أمامنا الرمال من ذهب، لكي نتفاءل أن مستقبلنا سيكون أجمل مما نتصور. كدت أستسلم لهذه الفكرة وأقتنع بها، صحيح، الواقع الذي يؤكد ذلك، معظم الأزمات التي واجهتنا، منذ بداية هذا العام، انشطبت من ذاكرة الكثيرين منا، عشرات اللجان التي شكلت للتحقيق فيها انقطعت أخبارها تماما، خذ مثلا واحدا: أزمة مستشفى السلط التي فجرت غضبنا لأيام عدة، الآن لا نعرف مصيرها، والأغرب أن عدواها انتقلت إلى مستشفيات أخرى بوزارة الصحة، لكن بأعراض أخرى، ما يعني أنها وإن قرعت الجرس لفتح ملف أمراض الطبابة عامة، الا أنها لم تفتح الملف ولم تعالجه حتى الآن، وبالتالي طواها النسيان. فجأة خطر ببالي سؤال مهم، وهو: هل تصاب المجتمعات فعلا بألزهايمر؟ لا يوجد لدي إجابة علمية دقيقة، لكن بالعودة الى الدراسات التي أجريت على المصابين بفقدان الذاكرة، تبين أن أعمارهم تزيد على 65 عاما، ما يعني أن مجتمعنا الذي ما يزال فتيا (نسبة الذين تزيد أعمارهم على 65 عاما تبلغ 4.1 % فقط) لم يصب بهذا المرض، ولم تتعرض ذاكرته للشطب، وإن كانت تعرضت للتشويش والتشويه مرارا، صحيح أنه يغفو أحيانا، ويتعامل مع المشكلات بمنطق البلع لا بمنطق الهضم، لكن لم يخل عقد منذ خمسين عاما على الأقل إلا وشهدنا حركة ما للمجتمع، للمطالبة بالتذكير والإصلاح. مجتمعنا، إذا، ما يزال يتمتع بقدر كبير من الحيوية، وهذه الحيوية تعكس طبيعة الشخصية الأردنية التي من سماتها الصبر والتحمل والتعقل، في موازاة الاعتزاز بالذات ورفض قبول التعامل معها بالإهانة أو الاستهانة، ولهذا فإن الذين يراهنون على ضعف الذاكرة الشعبية واهمون ومخطئون أيضا، الأردنيون قد يتجاهلون ويتناسون، لكنهم قادرون دائما على استدعاء كل شيء، والشاهد أن تاريخنا، بكل ما فيه من أحداث، ما يزال حاضرا في وعي الأردنيين، على الرغم من محاولات الاختطاف التي تعرضت لها ذاكرتنا الشعبية. لدي قناعة أن مجتمعنا ما يزال بخير، وإن كان يبدو على السطح غير ذلك، وعليه فإن الأردنيين الذين صبروا وتحملوا ما لم يتحمله شعب آخر، سواء بحكم الجغرافيا والتاريخ، أو الواقع الصعب، يستحقون من حكوماتهم أن تفهمهم وترد عليهم التحية بمثلها، أو بأحسن منها، الأردنيون يا سادة لا يعانون من ألزهايمر كما تتصورون، وإنما يعانون من أعراض “عشق” جميل لوطن ليس لديهم بديل عنه.