هل يوجد واسطة ومحسوبية بالإدارة العامة في بلدنا؟ الإجابة التي وصلتنا من أروقة المحاكم تشير إلى قضية واحدة فقط ، أحالتها هيئة الشفافية ومكافحة الفساد للقضاء ،منذ تأسيسها (2008) حتى نهاية العام الماضي ، كما تشير إلى أربع قضايا أخرى أحيلت للقضاء من جهات أخرى ، لم تثبت التهمة الا في قضية واحدة ، حيث تم تغريم المحكوم عليه مبلغ 1000 دينار. لدينا قانونان يجرمان هذه الظاهرة، قانون هيئة مكافحة الفساد (المادة 16) حيث اعتبر قبول الواسطة والمحسوبية من قبل موظفي الادارة العامة فسادا ، ويعاقب عليها بالحبس أو الغرامة، وقانون العقوبات (المادة 176) الذي يشير إليها بشكل غير مباشر كجريمة استثمار للوظيفة العامة ، ومع ذلك فمن بين نحو 3600 شكوى تلقتها الهيئة (2019) عن قضايا فساد متعلقة بالواسطة، لم يتوفر ما يلزم من إثباتات لإحالة أي منها للقضاء، وتم متابعتها ثم حفظها بالأدراج . يمكن فهم تعسر محاكمة هذا الفساد الإداري في أكثر من سياق ، ربما بسبب غموض مقصود، أو غير مقصود، بالنصوص التشريعية، ربما لأن هذه الظاهرة تشكل ثقافة اجتماعية راسخة لدى المجتمع الأردني، ولدى المسؤولين ، وربما تندرج تحت باب “يوجد لدينا فساد لكن لا يوجد فاسدين “. أيضا، يصعب ملاحقة المتورطين فيها ، ربما لأنها تجري بأجواء من الكتمان ، ومن الصعب عندئذ إثبات الواقعة، بأدلة قاطعة ، ربما، أيضا ،لأن من يمارسها مسؤولون (أكثرهم من النواب والوزراء حسب بعض الدراسات) للتغطية على فشلهم بأداء واجبهم، أو لإرضاء امتداداتهم الشعبية، أو لاختيار قيادات وظيفية “على قدّ اليد”، وهؤلاء المسؤولون غالبا لا تطالهم يد المحاسبة. الفساد الإداري باعتراف الجميع تمدد خلال السنوات الماضية حتى اصبح عنوانا” لفشل” القطاع العام ، وثقبا أسود تسللت منه معظم الفواجع التي صدمتنا ، وراح ضحيتها عشرات الأبرياء ، ناهيك عن عشرات المليارات من الدنانير التي خسرناها، كما أن هذا الفساد حرمنا من وجود كفاءات بالوظائف العامة وساهم بفيضان “خزانات” المظلومية لدى اغلبية الشباب الأردنيين ، وأفقدهم الثقة بمؤسساتهم، ودفع بعضهم – تحت وطأة الإحساس باليأس – للهجرة للخارج. من يتحمل مسؤولية هذا الفساد المتعلق بالواسطة والمحسوبية؟ خطاب المسؤولين يضع اللوم على ثقافة المجتمع ، فالأردنيون ،من وجهة نظر هؤلاء، هم الذين يضطرونهم لممارسة هذا السلوك ، وهم الذين لا يستطيعون أن يستغنوا عنها ، باعتبارها جزءا من موروثهم وتقاليدهم ، وربما جزءا من “جيناتهم الوراثية” أيضا. قد يبدو هذا صحيحا استنادا لمعطيات الواقع ، لكن الأصح هو أن الادارة العامة للدولة بكافة مؤسساتها تتحمل مسؤولية ذلك وهي المعنية بضبط هذه الظاهرة وتجفيف ينابيعها، لكنها لم تفعل ذلك ،حتى الآن، لأسباب معروفة أحيانا ،ومجهولة أحيانا أخرى. قلت: ينابيع الواسطة (مجاريها :أدق) ، أقصد ،أولا ، غياب العدالة فيما يتعلق بالوظيفة العامة ، ابتداء من التعيينات إلى الترفيعات والحوافز، إلى الانتقائية بالتعامل وبتوزيع المكافآت والرواتب ،وغير ذلك ، أقصد ،أيضا ، محاولة تكسير الكفاءات ومحاربتها ،بذريعة عدم ” الانتماء الوطني” وهو عنوان مغشوش وغير صحيح ، أقصد ،ثالثا، ابقاء المجتمع تحت سيطرة ونفوذ قلة من المحظوظين الذين اختطفوا المواقع العامة، أو نصبوا أنفسهم أولياء للأردنيين ، أو أوصياء عليهم. يكفي ، الآن، أن نستعرض حالة الادارة العامة، وحالة مجتمعنا ، لنفهم ما ألحقته بنا الواسطة والمحسوبيات ، من إصابات وأضرار عميقة، وما أفرزته من “قيم” وممارسات سلبية، لم نألفها لدى الموظفين في القطاع العام ، كما أنها لا ترتبط ، بأي نسب ، مع تقاليدنا وقيمنا الأردنية الاصيلة. بعد كل ما شاهدناه من فواجع ، وما دفعناه من فواتير للفساد الإداري ،ما لم تتحرك إدارات الدولة بسرعة ، لتجريم ومحاسبة كل من يمارس هذه التنفيعات والعطايا والتجاوزات، فإن “حبالا” كثيرة ستنقطع بين الدولة ومواطنيها ، وخزانات من القهر ستنفجر بوجوهنا ، لا سمح الله.