في غمرة السجالات التي بدأت، وستتواصل، حول مشروع التحديث السياسي والتعديلات الدستورية، أرجو أن ننتبه لثلاث مسائل(نتذكرها على الأقل)، الأولى أن لدى الأردنيين طاقة كبيرة، متوارثة ومتراكمة، من الأمنيات والطموحات للوصول لمرحلة تحول ديمقراطي حقيقي، تزدهر فيها مناخات الحرية والعدالة وسيادة القانون، وتنتصب أمامها الحزبية كرافعة للسياسة في البرلمان والحكومة، ولديهم، أيضا، ما يلزم من إرادة وقدرة، ووعي ونضج لتحقيق ذلك. أما المسألة الثانية فهي أن بلدنا يقع ضمن منطقة “حفرة الانهدام السياسي”، لا نحتاج لمزيد من التدقيق بالخرائط لندرك ما انتهت اليه حالة العرب في العشر سنوات الأخيرة، صحيح أننا سجلنا نقطة استثناء، وتجاوزنا العواصف بأقل ما يمكن من خسائر، لكن موجات القواصم التي ارتطمت بالعواصم ما تزال تهدر حولنا، ومن الضروري أن نفكر جديا بالتربة التي نضع عليها أقدامنا، وأن نستحضر الحكمة والعقلانية كمستلزمات لسلوكنا العام، شعبيا ورسميا على حد سواء. تبقى المسألة الثالثة، وهي أن مجتمعنا سيتعرض في المرحلة القادمة لجبهتين، مصدرهما النخب السياسية، إحداهما جبهة “الواقعية” المحملة بكل ما يخطر للبال من دفوعات وتبريرات وشروحات لتمرير حزمة التحديث وملحقاتها الحكومية، والثانية جبهة “الشعبوية” التي ستركب قطار الرفض والتشكيك بما أنجز، وستسير على الطريق المعاكس، أمام هذه الحالة السياسية، يحتاج الجمهور الأردني لجبهة ثالثة تضبط إيقاع مزاجه العام، على خطاب آخر مقنع ومؤثر وشجاع، وأعتقد أن امتحان الدولة في معركة الرأي العام أهم من أي امتحان آخر. لماذا ذلك؟ لدي ثلاثة أسباب، الأول أن ثمة انقساما، معلنا أحيانا ومخفيا أحيانا أخري، بين أعضاء “النادي السياسي”، لا سيما المحسوب على الدولة، حول حزمة التحديث وملحقاتها، وربما يفرز لاحقا “تمنعا” لدى الكثيرين بعدم الخوض بالموضوع، مما يولد أسئلة واستفهامات لدى الناس، وحججا للمتحفظين والشعبويين. السبب الثاني أن مهمة الدولة ومؤسساتها لإنجاز المنظومة تبدو سهلة، ومقدور عليها، حتى مع البرلمان، لكن الأهم هو تهيئة المجتمع وإقناعه بما سيتم، صحيح أن المهمة تبدو صعبة في ظل مزاج شعبي محبط وفاقد للثقة بكل شيء، لكنها ممكنة وضرورية، لأن ما أنجز “سيتبخر” في الفضاء العام إذا لم تنجح الدولة بتبريد المناخات السياسية، ودفع عجلة التعافي الاقتصادي، والأهم مصارحة الأردنيين بالحقائق، وعدم التذاكي عليهم، والاستهانة بعقولهم. السبب الثالث هو أن المرحلة القادمة ستشهد “ولادات” حزبية، طبيعية وقيصرية، بعضها قائم يبحث عن الاندماج مع آخرين، وبعضها قادم يحاول أن يكون من “الوزن الثقيل”، لا بأس طبعا، لكن ثمة مخاوف من تسلل عاملين اثنين، أحدهما “رأس المال” المجهول، والآخر “الأجندات” غير المحلية (لكي لا أقول غير الوطنية)، أعرف أن لدينا عيونا أمنية نثق بها، لكن الحذر واجب، لأن “حلبة” السياسة، بظروف بلدنا التي نعرفها، ستغري البعض على ممارسة المصارعة، والمناكفة، وتشغيل محركات الدواليب التي تعمل بالوكالة. ملاحظة أخيرة، كل ما ذكرته سلفا، بما فيه من دعوات وهواجس ومصارحات، يقع تحت عنوان واحد، وهو “الفرصة الأخيرة”، أعتذر عن عدم الإسهاب بشرحها لأن ما أقصده يعرفه القارئ الحصيف، وبالتالي يبقى لدي كمواطن رجاء فقط، وهو أن ننتصر لبلدنا، ونستحضر ضمائرنا من أجله على الدوام، فالأوطان أهم من الأشخاص، وأغلى من المكاسب، وأبقى من المواقع والمناصب.