صراحة نيوز – بقلم د صبري الربيحات
في بواكیر عملي مدربا للعلوم الاجتماعیة وعلم الجریمة في المؤسسات التعلیمیة والتدریبیة أشرفت على العدید من الابحاث التي كان یعدھا المشاركون في برامج التدریب ممن امضوا جل اوقاتھم في العمل المیداني الشاق وادركوا عمق الفجوة بین ما كنا نقدمھ لھم من دروس ونظریات وبین ما یكتسبونھ من دروس عملیة واقعیة وھم یقارعون الاحداث ویحلون المشكلات ویتعرضون للمخاطر.
أحد أبرز المتدربین ممن حظوا باحترام زملائھم تأخر في تقدیم الخطة التي على كل دارس تقدیمھا قبل قبول الموضوع والسماح لھ بالمباشرة في البحث العملي. في كل مرة كنا نذكر صاحبنا بالخطة كان یعتذر متحججا بانشغالاتھ التي نعرفھا ویطمئننا على انھ أعدھا وسیحضرھا في اللقاء القادم.
مع قرب انتھاء مھلة تسلیم الخطط قدم صاحبنا البحث قبل ان یقدم الخطة غیر مكترث لنظام الاولویات المعمول بھ. بعد ان أدرك صاحبنا الامتعاض الذي تولد على وجوھنا طلب استعادة البحث وأعاد كتابة الخطة بفصولھا ومنھجیتھا ومفرداتھا فقرأناھا واعتمدناھا فانتظر اسبوعین لیعید لنا البحث الغني بالقصص والتجارب والحالات التي بدت اكثر إثارة للزملاء من الاستنتاجات التي قد یفضي لھا البحث.
في تلك الایام بدا البحث كتقریر یعكس تجربة الدارس اكثر منھ خلاصة لسعیھ في الاجابة عن اسئلة اقلقتھ. ومھما تكن التجارب غنیة فإنھا لا تعدو كونھا تجارب یصعب تعمیمھا او اعادة انتاجھا فقد تختلف باختلاف الراوي او الفاعل.
استذكر ھذه الحادثة وأنا أتابع سیل نتائج الاستطلاعات حول شعبیة الحكومة ومشاھدة التلفزیون وإضراب المعلمین والموقف من السیاسات والإجراءات التي تتخذھا الجھات المختلفة من القضایا العامة والقطاعیة والاتجاھات نحو أمیركا والحروب في المنطقة وصفقة القرن وحماس ونقابة المعلمین.
في بلادنا یصعب قیاس رأي الفرد فالعریس یستشیر كل أفراد الاسرة في لون الكراسي التي سیشتریھا ویطلق زوجتھ اذا ما خالفت تعلیمات أمھ وترسل الفتاة صورة الشاب الذي تقدم لخطبتھا الى جمیع بنات خالاتھا قبل الاجابة على طلب والدتھ التي حضرت دون علمھ. الشور شورك والراي رایك ھو الموقف الذي یعبر عنھ غالبیة افراد اي جماعة عند سؤالھم عن الشأن العام.
في المجتمع الأبوي ینتظر الافراد مواقف الآباء والكبار والازواج ما لم یكن الفرد معنیا بالموضوع المطروح شخصیا. لھذه الاسباب اجد صعوبة في الأخذ بنتائج الاستطلاعات خصوصا تلك التي تتناول قضایا عامة.
في بلادنا یغضب الافراد بسرعة ویرضون بسرعة وغالبا ما تكون مواقفھم انعكاسا لمشاعرھم الآنیة وھذه الخاصیة یجري توظیفھا والإفادة منھا من قبل المرشحین للمواقع التمثیلیة حیث یسترضون الناخبین قبیل الانتخابات ویعاودون إھمالھم لكي لا یثقلون كواھلھم في المطالب المتكررة.
التجربة الأردنیة في مجال قیاس الرأي العام حدیثة نسبیا فقد تزامنت مع عودة الحیاة البرلمانیة للبلاد العام 1989 وعلى ید أحد خبراء التسویق اللبنانیین الذي ساعد الاجھزة والمؤسسات المھتمة في التعرف على رصد ومتابعة شعبیة المرشحین للمجالس النیابیة وإعطاء مؤشرات تمكنھم من التحكم بمسارھا ونتائجھا. ھناك مشكلة حقیقیة في قیاس الرأي العام من خلال استخدام اسئلة فیھا اشارة او استخدام لكلمات تتعلق بالتأیید والمعارضة.
فغالبیة الأشخاص لا یریدون التعبیر عن مواقف لغرباء ویفضلون المسایرة على المجاھرة عند مواجھتھم كأفراد وھذه الخاصیة معروفة تماما وھي الكامنة وراء فكرة تفریق المظاھرات.
الیوم وأنا أطالع نتائج الاستطلاعات استغرب وأنا اسأل نفسي ھل تبلور وعي للأفراد واضح ومستقل عن الجماعة یمكن عزلھ وقیاسھ والتعامل معھ كوحدة تحلیلیة أم أننا ما نزال اسرى للمقولة السائدة “ إن جنوا ربعك ما نفعك عقلك“؟ أنا غیر متأكد تماما.. وأحتاج إلى مزید من الاستطلاعات والمراقبة لمدى قدرتھا على قراءة الواقع والتعبیر عنھ.