صراحة نيوز – بقلم موسى العدوان
بتاريخ 1 /12 / 2011، ألقى أحد النواب الأردنيين كلمة في تحت قبة البرلمان خلال جلسة الثقة بالحكومة، قال فيها ما يلي وأقتبس: ” وما دامت الحكومة تتمتع بهذه الجدية في مكافحة الفساد، إذن لماذا يكافأ الفاسد بدلا من محاسبته؟ لدينا مثال حي: فمن زور الانتخابات عام 2010 أعطي بيتا قرب مدرسة البكالوريا، قيمته الآن ما يزيد عن 10 ملايين دينار، ووُضع عينا في مجلس الأعيان، فإن كانت الحكومة جادة في مكافحة الفساد، فإنها أمام اختبار في أن تعيد ملكية هذا البيت للخزينة، باعتباره ملكا للدولة وليس لمنتفع بفساد.
فهل بمقدور الحكومة القيام بذلك، لكي نرفع لها قبعاتنا ونشهد لها بأنها صادقة بما تعهدت به، ورحلة الألف ميل تبدأ بخطوة ؟ وانطلاقا من ذلك فإن لا جدوى من الحديث عن مكافحة الفساد، إن كانت أي مؤسسة من مؤسسات الدولة بمنأى عن المحاسبة والشفافية “. انتهى.
هذا الكلام . . جاء على لسان نائب يمثل الشعب في ذلك الحين، وأعلنه على رؤوس الأشهاد، في جلسة رسمية من داخل بيت الأمة. علما بأن هذه الأعطية ليست الوحيدة، بل سبقها وتلاها أعطيات أخرى، إلى بعض المسؤولين المدنيين والعسكريين.
وبالرغم من مرور أحد عشر عاما على ذلك الخطاب، فإننا لم نلمس من تلك الحكومة، أو من الحكومات اللاحقة، استجابة لطلب النائب، في استعادة الملكية إلى خزينة الدولة، أو التوقف عن إهداء القصور إلى بعض المسؤولين دون وجه حق. فيبدو أن رؤساء الوزارات يعتبرون هذا الفعل خارج صلاحياتهم، مع أنهم مسؤولون قانونيا عن كيفية التصرف، بكل فلس من أموال الدولة.
إن أثمان القصور المهداة، كافية لإنشاء عدة مصانع وطنية متوسطة، تشغّل مئات العاطلين عن العمل من الشباب، وترفد الاقتصاد الوطني باحتياجاته الضرورية، كما تسهم في تخفيض أسعار العديد من الحاجيات الاستهلاكية على المواطنين، لا أن تُسهم في إقامة صروح من حجارة الفلل، تزيّنها الديكورات والجنائن لتبهج ساكنيها وزائريها.
وفي هذه الحالة، تسري الهمسات بين المواطنين متسائلة : ما هي الغاية من هذا الكرم الحاتمي في إهداء القصور إلى البعض، من أموال دافعي الضرائب؟ هل هي لغضّ الطرف عن قضايا معينة وتمريرها ؟ أم هي مكافأة لمسؤول قام بأعمال جليلة لم نلمس لها أثرا ؟ والإجابة على هذه التساؤلات تبقى حائرة تراوح بين تلك التساؤلات . . !
من المعروف أن الدول المتحضّرة، تخصص سكنا وظيفيا لمسئولي الصف الأول من رجالات الدولة، يستخدمونه خلال إشغالهم للوظيفة الرسمية، ويخلونه عند مغادرة مواقعهم. وأذكّر في هذا السياق على سبيل المثال، برئيس جمهورية فرنسا الأسبق جاك شيراك، عندما غادر منصبه عام 2007، فأخلى منزله الرسمي ولم يجد منزلا يأوي إليه مع عائلته، إلاّ شقة متواضعة في باريس قدمها له صديقه سعد الحريري، ليسكنها حتى يتدبر أمره.
إن ما يجري على ساحتنا الأردنية في هذا المجال، تعجز عن فعلة دولة ثرية، حتى وإن كانت قادرة على فعله ماديا، إلاّ أنها تتجنبه كالتزام أخلاقي وديني. فما بالك بدولة تنوء بمديونية تجاوزت الخمسين مليار دولار، ترافقها موازنة سنوية معجوزة بما يقارب ملياري دولار، ولديها ما يزيد عن 400 ألف شاب عاطل عن العمل ؟
فظاهرة أعطيات القصور التي يجرى اتباعها منذ بضعة عقود ماضية، تذكّرني بما كان يحدث في عصور ضعف الدولة الإسلامية، عندما كان الشاعر يقف بين يدي الوالي، ملقيا على مسامعه قصيدة عصماء، يمجّده بها ويسبغ عليه من صفات النبل والكرم ما يفوق الخيال. وعندها يتكرم الوالي بما تجود به نفسه من أموال المسلمين – لعدم انتشار القصور في ذلك الوقت – قائلا :
” أنقده يا فتى ألف درهم”. ثم يزيد الشاعر من جرعة المدح . . ليكرر الوالي مقولته : ” أنقده يا فتى ألفا ثانية “، وهكذا دواليك . . الشاعر يُسهب في المدح، والوالي يزيد من العطاء إلى أن تنتهي الحكاية . . !
في الختام أتمنى أن تتوقف أعطيات القصور، وأن يتم استبدالها بالسكن الوظيفي لكبار المسؤولين في الدولة من مدنيين وعسكريين، اقتداء بما تفعله أكثر الدول تقدما في العالم، للحفاظ على أموال الدولة، وإنفاذا للأمانة الثقيلة التي يحملها المسؤول، معتبرا من قوله تعالى :
( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ). صدق الله العظيم.
التاريخ : 30 / 8 / 2022