صراحة نيوز – بقلم موسى العدوان
يصف أحد الزعماء الأجانب معاناته في بداية حياته كما يلي وأقتبس :
هبطْتُ مدينة فينّا بعد وفاة والدتي خالي الوفاض، ولكن قلبي كان عامرا بالإيمان، فما تركت لليأس سبيلا إلى نفسي، وصممت وأنا أدخل المدينة الكبيرة للالتحاق بقسم هندسة العمار مهما يكن الثمن. وما كنت لأجهل أنه ينبغي لي أن أعمل لأعيش إلى جانب انكبابي على الدرس والتحصيل، وأني لأحمد اليوم العناية التي وضعتني وجها لوجه أمام قسوة القدر، وأنا بعد طري العود، وجعلتني أذوق مرارة العِوَزْ بعد أن قذفت بي إلى عالم المحرومين، متيحة لي أنا البرجوازي النشأة، أن أعايش الذين وجدتني فيما بعد مناضلا في سبيلهم ومن أجل رفع مستواهم . . . .
وفي فينّا مدينة اللهو واللا مبالاة، قضيت أنا أشقى أيام حياتي : خمس سنوات لم أذق خلالها طعم الراحة، بدأت العمل كمعاون بنّاء ثم كدهّان لأحصّل كفافي ولآمن الجوع، هذا الرفيق الذي كان يأبى عني انفكاكا ويشاطرني كل شيء. فإذا اشتريت كتابا وقف الجوع ببابي يوما كاملا، وإذا حضرْتُ حفلة موسيقية أو شاهدت مسرحية ما، لازمني الجوع يومين، وكان الكتاب سميري الوحيد، وبفضل المطالعة خزّنت معلومات وآراء تبلورت مع الزمن. ورحت من ثم أتمخض بنظريات أخذت منها فيما بعد أساسا للعمل.
كانت فينّا في مطلع ذلك القرن ( القرن العشرين ) مدينة تتأكّلها حمى المشاكل الاجتماعية، فيها يتجاوز الثراء والفاقة، العظمة والضّعة، المعرفة والجهل، ولم يكن في ( البلاد ) كلها مدينة توفر للمراقب إمكان دراسة المسألة الاجتماعية مثل فينّا. بيد أن هذه الدراسة لا يمكن أن يقوم بها الإنسان من علٍ من البرج العاجي، بل يجب أن ينغمس في البؤس ويذوق مرارة الحرمان، كي يتاح له أن يقيس مدى التفاوت بين الطبقات.
وككل مغترب يسعى في طلب الرزق، ويحرص على كسب ما يقوم بأوده بعرق الجبين، تحررت من الاعتبارات التي تُقعد ببعض الناس عن العمل : الكبرياء ومركّب النقص، والخوف من شماتة الشامتين، يقينا مني بأن العمل الجدّي وإن كان وضيعا، يشرّف العامل. وسرعان ما أدركت أن العثور على عمل أيسر من الاحتفاظ به. وأن الخيبة المريرة تنتظر الذين يهجرون الحقل في القرية النائية، ويهبطون العاصمة في طلب الرزق عن طريف العمل الهيّن “. انتهى الاقتباس.
* * *
التعليق : لقد اعتمد ذلك الرجل على نفسه وعاش حياة الفقر والشقاء، وواجه الكثير من الصعوبات المعيشية، ولكن بتصميمه وإرادته القوية، استطاع أن يتغلب على تلك الأوضاع القاسية، ووصل إلى أعلى المناصب في الدولة. وقد كرّم الله كل من يؤدي عمله، باعتباره جزءا من الرسالة التي حملها الإنسان لإعمار الأرض.
أما رسولنا الكريم ( ص ) والذي نعيش اليوم ذكرى مولده الكريم، فقد حثنا على العمل بقوله : ( ما أكل أحد طعامًا خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده ). وعندما ذُكر للرسول ( ص ) أن رجلا كثير العبادة، سأل من يعوله ؟ فقيل له أخوه، فقال : أخوه أعبد منه. ثم أضاف ( ص ) : ( والذي نفسي بيدِهِ، لَأن يأخذَ أحدُكم حبلَهُ فيحتطِبَ على ظَهرِهِ، خيرٌ لَهُ من أن يأتيَ رجلًا أعطاهُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ من فضلِهِ، فيسألَهُ أعطاه أو منعه ).
كما قال الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ( لا يقعدنّ أحدكم عن طلب الرزق وهو يقول : اللهم ارزقني، وقد عَلِم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة ).
فهل يأخذ الجالسون في بيوتهم دون عمل، العبرة من هذا الكلام، وينشطون بالبحث عن أعمالهم مهما كانت طبيعتها، أم سينتظرون السماء لتمطر عليهم ذهبا وفضة دون جهد أوعناء ؟
التاريخ : 29 / 10 / 2020