صراحة نيوز – بقلم الدكتور ابراهيم بدران
من شاهد المواطن الأميركي الأسود(مع الاحترام) جورج فلويد وهو يختنق تحت ضغط ركبة الشرطي الأميركي الأبيض، لا يستطيع الا أن يشعر بالألم والغضب . الألم لمعاناة هذا الشخص البسيط، والغضب بسبب هذه الوحشية والقتل العمد من شخص رسمي يمثل الدولة.
ولكن المشاهد الفلسطيني أو العربي بشكل عام اضافة إلى الألم والغضب يشعر بالصدمة. فقد رأى هذا المشهد بالضبط قبل بضعة أسابيع، حين ظهر شرطي اسرائيلي بنفس الهمجية، وهو يضغط بذات الركبة البغيضة على رقبة شاب فلسطيني في أحد شوارع القدس القديمة. المشهد ذاته في اسرائيل وفي أميركا. وكلا البلدين للأسف يتبجحان أمام العالم بما لديهما من ديمقراطية ومواطنة ومساواة.
وتماما كما يفعل نتنياهو أمام أجهزة الإعلام يتشدق بالكذب والاقتراء والادعاء، فقد فعل دونالد ترامب ذات الشيء حين قال في خطابه المتلفز “ ……. ولو أتيح لجورج فلويد أن ينظر الينا (إلى ترامب) وإلى ما ننجزه سيقول: هذا بلد عظيم.. “ تخيلوا أن الضحية الذي قتل بكل وحشية خنقا تحت رجل الشرطي لأنه أسود، وعلى أساس العنصرية والكراهية، يقول بعد سماعه لدونالد ترامب “هذا بلد عظيم” ، هذا في حين لا يسمع ترامب ولا يرى الملايين في أميركا وأنحاء العالم تهتف بسقوطه لتجاهله وعنجهيته وعنصريته.
العنصرية والكراهية ضد السود في أميركا، والتي تتم بشكل ممنهج من الدولة العميقة، ماذا يقابلها في اسرائيل بعد مرور 72 سنة على اغتصابها لفلسطين ؟ يقول المؤرخ الإسرائيلي ايلان بابيه حرفيا “….العام 1948 كان المسار بالنسبة للحركة الصهيونية يسير وفق معادلة واضحة مؤداها :انه لا تحقيق لاستيطان ناجح واستعمار لفلسطين بدون تطهير عرقي كامل للفلسطينيين” ويتابع ايلان قوله: “الناس الذين صاغوا المعادلة ووضعوا الخطة لطرد جميع الفلسطينيين بالقوة، لم يفكروا بتحقيق ذللك من خلال تدمير قرية أو اثنتين، أو طرد مائة فلسطيني أو ألف وانما اتخذوا قرارا لاجتثات الوطن بكامله” .
ومن يتابع الأحداث بعد العام 1948 يجد أن إسرائيل قتلت ما يزيد على 100 ألف فلسطيني وسجنت واعتقلت ما يزيد على مليون بينهم عشرات الآلاف من النساء والأطفال، وقتلت أكثر من 33 ألف عربي. و يلاحظ أن الشرطة والجيش الاسرائيلي لم يتركا طريقة لقتل وتدمير الفلسطينيين الا واستعملاها ابتداء من القتل المباشر دون سبب باستخدام البنادق مرورا بقتل الأطفال أمام ذويهم والدفن بالجرافات وحرق المنازل الفلسطينية بمن فيها من السكان وهو ما لم يفعله النازي في ألمانيا الهتلرية. وبالمقابل فإن المهاجرين البيض في أميركا أبادوا 130 مليون إنسان من السكان الأصليين منذ العام 1600 وحتى اليوم ولم يبق من الهنود الحمر أكثر من 2 % بينما ذهب 98 % قتلا وحرقا في المزارع ومعسكرات الاعتقال التي قلدها هتلر.
والسؤال: هل يمكن لدولة ديمقراطية مثل الولايات المتحدة الأميركية والتي ينص دستورها على المساواة بين مواطنيها ان تستمر في كراهية وقتل السود لدرجة اعتبار قتل جورج فلويد مثلا قتلا غير مقصود رغم أن عملية الخنق استمرت 8 دقائق و48 ثانية؟ هناك أربعة جوانب رئيسة:
أولاً: إن الديمقراطية كنظام حكم للدولة، لا جدال حوله في أنه أفضل الأنظمة التي توصل اليها الانسان..أما اساءة استعمال الديمقراطية فهذه جريمة من الدولة والسلطة التي تسيء الاستعمال. تماما كالعلم الذي قد يساء استخدامه في الأسلحة والسموم، ويحسن استخدامه في التنمية والاختراعات. وبالتالي ليس للبعض أن يفرح لأن الديمقراطية قد فشلت.
ثانيا: هناك فرق كبير بين النصوص القانونية المكتوبة، وبين الممارسة الفعلية. فجميع الدول الاستعمارية كانت نصوص دساتيرها تنص على الحرية والمساواة والديمقراطية. والطريق الوحيد لمنع طغيان السلطة أو الحاكم مثل ترامب على النصوص الدستورية هي منظمات المجتمع المدني والاعلام المستقل ووعي قادة الرأي والعلماء والمفكرين.
ثالثاً : إن الكراهية والعنصرية في أي دولة هي سلوك مجتمعي وموقف الأفراد والجماعات من الآخر. الأمر الذي يتطلب التركيز الثقافي والتعليمي على محو مشاعر الكراهية، والخروج منها من خلال البرامج المنظمة لانفتاح مكونات المجتمع بعضها على بعض، وفي جوانبها الايجابية من خلال الفنون والآداب والعلوم والرياضة والنشاطات الوطنية.
رابعاً: إن “الدولة العميقة” غالبا ما تتمسلك بأنماط سلوكية وتقديرية أحادية الرؤية لا تتخلى عنها حتى لو تغيرت النصوص القانونية المتعلقة بها كما تغير قانون التمييز ضد السود في اميركا العام 1968.
والدولة العميقة تعطي تعليماتها غير المكتوبة لأجهزتها وخاصة الأمنية. فلم يصدر هتلر كتبا رسمية بحرق اليهود، كما أن اسرائيل لا تصدر كتبا رسمية بقتل الفلسطينيين، ولكن جميع أجهزة الكيان الصهيوني من جيش إلى شرطة إلى محاكم إلى قضاة إلى اعلاميين، يقرؤون الإشارة الخضراء بقتل الفلسطينيين وتدمير الوطن الفلسطيني، مما دعا جيمس كارتر إلى وضع كتابه حول التمييز أو الابرثايد التي تقوم به اسرائيل. وبنفس الطريقة فالأميركيون البيض في أجهزة الدولة العميقة يريدون أميركا بدون سود وأميركا بدون هنود حمر ولا سكان أصليين ولا مهاجرين.
إن حلم الكيان الصهيوني هو النموذج الأميركي، المتمثل بمجموعة من المهاجرين لم يصلوا إلى نصف مليون في بداياتهم، فتحوا أميركا وقضوا على السكان الأصليين وأقاموا بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة أقوى دولة في العالم. وهو ما تريد أن تفعله اسرائيل في فلسطين والمنطقة العربية.
وكما قال المؤرخ اليهودي ايلان بابيه “إن المؤامرة الدولية ضد الفلسطينيين تمثلت بالصمت إزاء الجرائم الصهيونية منذ العام 1948 وحتى اليوم “وبطبيعة الحال فإن الصمت من أوروبا التي مارست شتى أنواع الاضطهادات العنصرية، والصمت من أميركا التي قامت على استئصال السكان الأصليين وشراء السود من أفريقيا واستعبادهم. هذا الصمت هو الذي ترتع فيه اسرائيل .
لقد آن الآوان لتغيير المعادلة فلسطينيا وعربيا وعالميا من خلال الخروج عن الصمت اليوم وفي المستقبل. فكل عنصرية مرفوضة وكل قتل للأبرياء مرفوض، وكل تدمير توسعي بغيض تقوم به إسرائيل لا مستقبل له.
* وزير التربية والتعليم الأسبق