صراحة نيوز – بقلم موسى العدوان
يصف الملك حسين بن طلال طيب الله ثراه في كتابه ” مهنتي كملك ” حالة الفقر التي عاشها في بداية حياته كما يلي وأقتبس : ” بعد سنة من مجيئي إلى هذه الدنيا، وُلدت للأسرة طفلة صغيرة، إلاّ أنها ماتت بعد شهرين من ولادتها، من جراء البرد القارس في عمان. فقد قضى عليها مرض ذات الرئة، لأننا كنا لا نملك من الموارد ما يسمح بتدفئة بيتنا الصغير.
أني لأذكر رحلة قمنا بها بعد بضع سنين، لزيارة ابن عمي فيصل في بغداد، فتعلقت نفسي بدبّ ضخم من القطيفة، ولم أكن أرغب الانفصال عنه بأي ثمن. وفي لحظة العودة إلى عمان، اضطررت مع ذلك إلى التسليم بتركه لابن عمي، وقد تمزق قلبي من جراء ذلك. وفي اليوم التالي، اشترت لي أمي دبا مماثلا بعد أن باعت آخر حلية كانت لها.
وعندما كنت صبيا صغيرا، كنا نقيم جميعا في دارة متواضعة، تتألف من خمس حجرات مع غرفة استحمام واحدة، تحيط بها قطعة أرض صغيرة في جبل عمان، أحد تلال العاصمة السبعة. لقد كان ابن عمي فيصل ملك العراق يوحي إلي بانطباع، أنه يعيش في عالم غني ثري.
وأنني لأذكر زيارة أخرى قمت بها إلى بغداد عندما كان لي من العمر عشر سنين، فقدم لي فيصل بمثابة هديّة الوداع، دراجة متألقة متلألئة. وقد كان لدي شعور بأنني لن أمتلك أبدا في حياتي شيئا أجمل منها. وطوال سنة كاملة بقيَتْ الدراجة محتفظة بالجمال واللمعان، اللذين كانت عليهما في اليوم الأول. وكنت في الصباح والمساء، أدلّكها وألمّعها وأجعلها تضئ وتشعّ.
وفي أحد الأيام جاءتني أمي وقالت بلطف : إنني أعرف بأنني سوف أشقّ عليك، ولكن وضعنا المالي يبعث على الهمّ والقلق. فلكي نستطيع الخلاص من هذا الحال، لابد لنا من بيع بعض المتاع لدينا، فهل يضايقك يا بني العزيز أن نبيع دراجتك ؟ وقد جاهدت نفسي لاحتباس دموعي، إنهم يستطيعون بيع كل شيء ولكن ليس دراجتي !
فقالت لي أمي من باب التسرية عني وتعزيتي : إنك تعرف بأن عليك أن تواجه وتتغلب على الكثير من خيبة الأمل، كن قويا، فسيأتي يوم تنسى فيه هذه الدراجة، وتقود أجمل السيارات. لقد قدت أجمل السيارات فيما بعد، ولكنني لم أنس أبدا هذه الدراجة، فقد بيعت في اليوم التالي بخمسة دنانير.
ليس الفقر عيبا، ولقد أثبت لي مستوى معيشتنا المتواضع، أنني أستطيع أن أحيا حياة أبسط من الحياة التي عشتها فيما بعد، وعلّمني أيضا أن أقدّر قيمة المال إلى الحد الذي أصبحت فيه الآن، أشعر بمتعة كبرى في منح العطايا للمعوزين. وعلى الرغم من فقرنا فقد كانت حياتنا سعيدة نسبيا. فقد أختلفت إلى سبع مدارس متباينة سواء في عمان أو الإسكندرية.
وقد كنت دوما أشعر بفرح شديد في مصادقة الصبيان الآخرين وأن أعامل تماما مثل الآخرين. ولكن لئن صادقت عددا كبيرا من هؤلاء، فإن القليل منهم قد أصبحوا الخلاّن الأوفياء الحقيقيين. . . وما زلت أذكر تماما حتى اليوم، المهجع الكبير في كلية فكتوريا بالإسكندرية الذي كنت أتقاسمه مع ثلاثين من الفتيان الآخرين ورذاذ الماء المثلج الذي كنت أستحم به كل صباح، واللباس المدرسي المصنوع من نسيج الصوف الخفيف، وقميص الرياضة الخاص بالكلية.
وإنني لأرى نفسي أيضا كيف كنت جالسا على حافة سريري بعد ظهر أحد الأيام، أحاول جهدي إدخال خيط في ثقب إبرة، لترقيع قميص الرياضة الذي كنت قد مزقته. وأخيرا نجحت في ذلك لأنني كنت أعرف أن والديّ، كانا لا يملكان ما يتيح لي شراء قميص آخر.
كان جدي يساعدنا ماليا لتسديد الأقساط المدرسية، لأن أبويّ ما كانا ليستطيعان ذلك لوحدهما، وربما يبدو هذا غريبا، ولكن لا تنسوا أن والدي كان يتلقى راتبا سنويا متواضعا. ولما كان عددنا في البيت كبيرا، وكان يحمل لقب ولي العهد، فلم تكن الحياة هينة بالنسبة إليه…
ومع تقديم مساعدة لنا ودفع أقساطي المدرسية، إلاّ أننا فيما يتعلق بالنقود السائلة، فقد كنا غالبا في ضيق، الأمر الذي كان يضعني في موقف غريب. فقد كنت أختلف إلى مدرسة ممتازة، في حين أن نقود الجيب التي تردني كانت مضحكة حقا. كل هذا عاد علي بخير كثير، وذاك بلا شك من جراء العادة التي اكتسبتها في وقت مبكّر، وهي أن أكون مقتّرا جدا، مما جعلني فيما بعد
أراقب مالية بلادي بعين نقادة “. انتهى الاقتباس.
* * *
التعليق :
1. في هذه المذكرات يقدم لنا جلالة الملك حسين طيب الله ثراه كيف عاش حياة الفقر في بداية حياته، وبيّن لنا بأن الفقر ليس عيبا، فبالعمل الجادّ والاعتماد على النفس والصبر، تتغير الأمور إلى حال أفضل مع مرور الزمن.
2. لم يُخلق الحسين وفي فمه ملعقة من ذهب، ولم يكن والديه في حالة من الثراء، ليتمتع بالمال من صغره، كما هو حال ابن عمه فيصل في العراق. ولم يتوفر له المال الكافي في موازنة الدولة عند توليه الحكم، ليودعه في ملاذات آمنة، بل حافظ عليه وانشأ المدارس والجامعات والمستشفيات وشق الطرق العريضة، وعزز وسائل الإعلام المحلية، وغير ذلك من متطلبات الدولة العصرية بإمكانيات محدودة، الأمر الذي فرض مكانة الأردن الجيو سياسية على خريطة العالم.
٣. وبتلك الأعمال التي تابعناها خطوة بخطوة، شهدنا كيف كان الأردن مثالا لكثير من دول المنطقة حتى الغنية منها. ومن حق الحسين علينا في هذه الأيام العصيبة، أن نقدم له الشكر وفاء له على ما قدّم لخدمة الوطن والمواطنين، داعين الله أن يرحمه ويسكنه فسيح جناته.
التاريخ : 3 / 9 / 2020