إن العالم اليوم مشغول البال من أوله الى آخره، ولكن بعض اقسامه تشغل بالها خواطر الاغتنام ، وبعضها يأخذها الهم والغم من جهة الخسارة ، والبعض الآخر قلق البال بما فيها من الإضطراب و الفقر والجوع والبطالة مما يشعل نارها ويرهق شعبها بسبب حكومات كثرت سيائتها وتعددت مصادرها وظهرت آثارها حتى لم يعد في الإمكان سترها بضروب التفسير والتأويل ولا بنوع من أنواع الإيهام والتضليل، وأصبح الشعور بها عاما والعلم بمضارها ثابتاً متمكنا في النفوس بأنها ذات تقصير مستمر، وأن وظيفتها زيادة المديونية فقط وما أحدثكم والكل يسأل نفسه إلى متى؟ ونرى الطامة تتبع الطامة من رجال حكومات سابقة ، ولا تقوم أمام ذلك جماعة معترضة ، وإن قامت جماعة واحدة خذلتها عشر جماعات ، وجاءت هذه الحكومة التي يسمونها جديدة فدرجت درج أسلافها ودرج الناس معها درج أسلافهم ، فهي تسرف حيث تشاء وكيف تشاء ، وتقتصد حيث تشاء وكيف تشاء ، وتوظف من غير ذوي الكفاءة من تشاء إلى من تشاء ، والافكار امام ذلك واجمة ، وإذا جمجمت بعض الأقلام بشيء من الاعتراض لقيت ما تكره، ونشأ بذلك الرأي العام السائد بآلام المواطن الذي كشف حيل المتزلفين في إطراء الباطل إيثاراً للمنافع الشخصية ولايهم تلك الحكومات إلا أن تظفر بما تطمح إليه ولم تلتفت إلى وعودها بتطبيق الإصلاحات بل ظلت سادرةً في غلوائها ، مشيحة في غوايتها، وإنني لا أستطيع التثبت لما سئمت منه نفوس المواطنين من غطرسة الحكومة، ولكن سيأتي حتماً من يُصلح ويُعدّل ويبني من جديد، وسيكذب لهم الزمان كل الظنون، ومع الصبر القليل سنمشي من جديد ، أما الآن فإننا نرضى من الإصلاح بالقدر الذي يسير الأمور وأن الذين خربوا ونعثوا فيها ليسوا والله بخير.
ربما يجيء ذلك اليوم المأمول ولكن قبل مجيئه سنقاسي ونقاسي، وسنلاقي ما سنلاقي، لا أقول أن كل ذلك من غيرنا كما يقول كثيرون، وأنما أقول إن كل ذلك أو معظمه من غفلتنا وإشتغال فريق منا بالتغرير والتضليل من حيث يشعرون أو لا يشعرون، وإستعداد الآخرين للإنخداع والإغترار من حيث يعلمون أو لا يعلمون، ولا أرى أن ليس هذا بيوم حساب بل أرى أن هذا أحسن الايام له.
نحن اليوم أمام لظىً مستعرة كثيرة الجمرات كبيرتها، وأصغر جمراتها الفقر والجوع والبطالة ، إن بين الأمس واليوم والغد ارتباطاً عظيماً في حياة الأمم ، وأن الأمم التي لا يهمها شأن الغد هي التي لا تتقن حساب اليوم والأمم التي لا تتقن حساب اليوم تتعب كثيراً في حياة غد إذا لم يسرع إليها الآن الأجسام الآدامية التي يطلق اسم الحياة عليها، وبينها من التفاوت ما لا تحيط المجلدات بشرح تفاصيله وصوره ، ومن جملة هؤلاء الاشخاص الآدميين أشخاص يخلقون بأقبح صورة بشرية (مُسخاً)،مكرسحين، مطوية سوقهم ، ملوية أقدامهم ، يدبون على الارض زحفاً على أيديهم ، وهم إذا تحركوا أشبه شيء بالمكاسح والمكانس ، وإذا سكنوا فهم أشبه شيء بالسلاحف حين ترفع رؤوسها ، وما أظن إلا أن كل قارىء قد رأى مُسخا أو أكثر من هؤلاء غريبي الخلقة ، فيتمثل أمام ذهنه شكلهم الذي فصلناه تفصيلا.
من التصادف الغريب أن هؤلاء كثيرون هنا ونراهم كل يوم ، فإنه لا شيء يوضح المعاني بمقدار الامثلة المحسوسة ، إن هؤلاء لا تجد في الحرص على الحياة فرقاً بينهم وبين أطيب الناس أجساما وأحسنهم وأعظمهم آمالاً، و أقل ما يدلك على ذلك بالبداهة أنك ترى الواحد منهم يتكبد عذاب الزحف لتحصيل ما به قوام حياته على زعمه ، فهو كالنمل تحت الاقدام بل النملة قد تتقي هذه المضائق التي يزج هؤلاء بأنفسهم فيها ، وهي إنما تسعى إلى التقاط رزقها و قوتها من فيض الجود الرباني الذي لا ساحل له ، وتسلك إليه بما أوتيت من القوة الكافية وبما هديت له من الطريق المقبول بالنسبة اليها، و نعني طريق الحياة الطبيعية ، أما هؤلاء المُسخ فيسعون بغير ما قوة كافية ، ويسلكون إليه من طريق غير شرعي ، ويضمون إلى كل ما هم فيه من النقائص الظاهرة نقصاً تلم بجوهر النفس حتى يصدأ. واليوم ما نحن بيائسين، ينبغي هنا أن نتمرن في سبيل الحياة الاجتماعية والسياسية وأن الأمة قد تجد من الأفكار الآن الكثير، ولكن يعوزها تمرُّن وتصحيح إرادات وتقوية عزائم وألا تستغني عن صبر وإنتظار وحسن وقوف مع الحاضر الموجود ، وحسن طلب للآتي الموعود ولا يمكن لأمة أن تستقر على مستقر ثابت من النجاة أو تتمتع بثمرة من ثمرات الحياة في هذا العصر ما لم تقف على ما تحس به رعيتها من الحاجات الإقتصادية الإجتماعية والإدارية وتتوسل إلى سدها بالوسائل الممكنة ، فإنها إن قدرت على ذلك ولم تفعله لا تلبث تلك الحاجات أن تلح بأصحابها فتنهض بهم إلى قضائها وهو ما لا يتم معه نظام ولا يجتمع به شمل.
حمى الله الأردن ملكاً هاشمياً عظيماً و شعباً أردنياً عريقاً…