صراحة نيوز – بقلم موسى العدوان
في يوم 22 نيسان من كل عام، تطل علينا ذكرى وفاة معالي المشير حابس المجالي عليه رحمة الله. ذلك الكوكب الذي سطع في سماء فلسطين والأردن، وبقي متألقا ينير الطريق للتائهين بين جنبات الوطن، لأكثر من خمسين عاما من القرن الماضي. لقد نذر حابس نفسه للجندية، وكان أول ضابط عربي يتولى قيادة كتيبة في الجيش العربي الأردني، وهو من واجه القوات اليهودية في ساحات فلسطين، وردها على أعقابها خاسرة في مختلف عملياتها.
لقد كان حابس المجالي رمزا وطنيا ونموذجا للشجاعة والشهامة والرجولة الحقّة، التي جسّدت حب الوطن قولا وعملا، تشهد به بطولاته في معارك القدس، خاصة في منطقتي اللطرون وباب الواد. ورغم أنه لم يحالفني الحظ في الخدمة بمعيته عن قرب نظرا لفارق الرتبة، إلا أنني كنت وما زلت أرى فيه الرجل العسكري الحازم، الذي لا يساوم على حساب الوطن. وتاليا بعض مواقفه خلال حرب عام 1948.
بتاريخ 1 حزيران 1948 زار جلالة الملك عبد الله الأول رحمه الله، مواقع الكتيبتين الثانية والرابعة على أثر معارك باب الواد واللطرون، لتفقد نتائج تلك المعارك. وبعد استماعه لإيجاز لسير المعركة على واجهة الكتيبة الرابعة، التفت إلى قائد الكتيبة حابس المجالي وقال : ” إنك وجنودك تدافعون عن أرض سبقكم للدفاع عنها قادة عظام، من أمثال عمرو بن العاص وصلاح الدين. ومن سمّاك حابس ما أخطأ، لأنك حبست العدو وحلت دون تقدمه. إن كتيبتك الرابعة هي الكتيبة الرابحة بإذن الله “.
في ليلة 8 / 9 حزيران زحفت قوات العدو تحت ستر الظلام، وتمكنت بعد قتال عنيف من الوصول إلى مسافة 70 ياردة، عن مركز قيادة الكتيبة الرابعة. فأمر قائد الكتيبة بتجميع آخر قوة متوفرة لديه، للقيام بهجوم معاكس على العدو، وطرده من الموقع الذي وصل إليه. وهذا الموقع عبارة عن مرتفع إذا استطاع العدو أن يحتله، فإن مواقع الكتيبة تصبح تحت سيطرته، وتحت تأثير نيران أسلحته، ويكون الموقف حرجا، فإما الحياة أو الموت، وإما طرد العدو أو الهزيمة.
وعلى مسافة قريبة من قائد الكتيبة حابس المجالي، كان يقف طبيب الكتيبة الدكتور يعقوب أبو غوش، فسأله حابس : كم رصاصة في مسدسك ؟ أجاب الطبيب 6 رصاصات. فقال حابس : في مسدسي أيضا 6 رصاصات . . وصمت لحظة ثم قال : سنبقى هنا . . وإذا وصل جنود العدو إلينا . . سيطلق كل واحد منا 5 رصاصات عليهم . . أما السادسة فسنطلقها على أنفسنا. . ! ولكن الكتيبة صمدت في مواقعها وتمكنت من دحر العدو بعد إيقاع خسائر كبيرة به.
في هذه الأثناء فُرضت اتفاقية الهدنة الأولى بين العرب واليهود، ليسري مفعولها ابتداء من بتاريخ 11 حزيران 1948. فطلب كلوب رئيس أركان الجيش العربي، من القوات الأردنية الموجودة في فلسطين، التقيد بالهدنة ووقف القتال في التاريخ المحدد. وكان الرد من حابس المجالي بهذه الأبيات الشعرية :
ما اريد أنا هدنــة يـــا كلوب * *
خلي البواريــــد رجّادة
بيوم قيض بحر الشـــــوب * *
والنار بالــــجو وقــــادة
خلـــهم يحسبوا لنـــا محسوب * *
إنّا على الموت ورّادة
صهيون اترك لنا المغصوب * *
وابعد عن القدس وبلاده
النصـــر لنــــا مكتــــــــوب * *
والخوف ما هو لنا عادة
انتهت الحرب بنتائجها المعروفة، وخلال الاحتفال بالتوقيع على معاهدة وادي عربه في منطقة العقبة، طلب بعض القادة الإسرائيليين اللقاء مع حابس المجالي، إلاّ أنه رفض مقابلتهم باعتبارهم ما زالوا أعداء للعرب، رغم كل الاتفاقيات الرسمية المعقودة معهم.
رحل المشير حابس المجالي بعد هذه الرحلة الطويلة عن الدنيا، بعد إن خاض خلالها الحروب، وهو مدان ماليا لمؤسسة الإقراض الزراعي، بمبلغ يقارب الخمسة عشر ألف دينار – بعكس من تبعه من رؤساء الأركان ومدراء الأمن العام – ولكنه لم يطلب من أحد أن يسددها عنه، إلى أن عرف جلالة الملك حسين – طيب الله ثراه – بالموضوع، فأمر بسدادها عنه دون علمه.
في عام 1977 كنت مديرا للتخطيط والتنظيم في القيادة العامة، فجاءني مرافق المشير حابس المجالي، يبلغني بأن سيارة المشير متعطلة وأرسلها للتصليح، ولا يوجد لديه سيارة يتنقل بها خلال تلك الفترة. فذهبت إلى رئيس الأركان المشير فتحي أبو طالب أخبره بذلك، ورجوته أن يخبر جلالة الملك بهذا الوضع، لأن المشير تمنعه عزة نفسه أن يطلب من الملك سيارة.
إلا أن رئيس هيئة الأركان لم يستجب لطلبي، وأمرني بإرسال إحدى السيارات المخصصة لضيوف القيادة العامة إليه، لاستخدامها مؤقتا ريثما يتم إصلاح سيارته. كم حزنت على ذلك، وتمنيت لو أنني أستطيع إيصال تلك المعلومة إلى جلالته، لكان قد تبدل الموقف إلى الأفضل.
عين جلالة الملك حسين حابس المجالي بعد انتهاء خدمته العسكرية عضوا في مجلس الأعيان، إلى أن توفاه الله في مثل هذا الشهر من عام 2001 عن عمر يناهز ٩١ عاما، دون أن تكتب له الشهادة. وكأني به يردد ما قاله القائد العظيم في صدر الإسلام خالد بن الوليد : ” لقد شهدت مئة زحف أو زهاءها، وما في بدني موضع شبر، إلا وفيه ضربة بسيف أو رمية بسهم أو طعنة برمح، وها أنا ذا أموت على فراشي حتف أنفي، كما يموت البعير فلا نامت أعين الجبناء “.
بمثل تلك التضحيات من قبل حابس المجالي ورفاقه الضباط والجنود الأشاوس، المؤمنين بالله وبحقهم في الدفاع عن المقدسات، استطاع ذلك الرعيل الأول الحفاظ على جزء كبير من أرض فلسطين، وهو ما سمي لاحقا بالضفة الغربية. فأولئك الرجال لم يفكروا بمكسب دنيوي، أو مصلحة خاصة توفر لهم العقارات، والمشاريع التجارية والثراء.
لقد كانوا مثالا للحفاظ عل شرف مهنة الجندية، والتضحية بالنفس، ونكران الذات، فلم تتلوث سمعتهم بخيانة المسئولية، أو اختلاس لمال أو محسوبية، وكانوا مثالا وعونا للناس طيلة خدمتهم العسكرية. وعندما طُلب من حابس أن يكتب مذكراته رفض الطلب قائلا : ” أترك للناس تكتب ما تعرفه عني، ولا أرغب بالكتابة عن نفسي “.
ومن المؤسف أن تمر ذكرى وفاة ذلك القائد العظيم، الذي ضحى من أجل الأردن وفلسطين، ومن أجل استقرار وديمومة النظام، دون أن نسمع عنه كلمة رسمية تشيد بمواقفه، وتذكّر أبناء هذا الجيل، بأحد الرموز الوطنية الذي قد لا يتكرر في المستقبل القريب . . !
وفي الختام أقول : رحم الله حابس المجالي ورفاقه الشرفاء، الذين خدموا الوطن بتفان وإخلاص، دون منّة أو انتظار لشكر أو جزاء، وأدخلهم جنات الخلد والنعيم.
التاريخ : 23 / 4 / 2021