بعد ثلاثة أشهر بالتمام أنجزت لجنة تحديث القطاع العام “استكشاف” واقع الإدارة العامة للدولة، ثلاثة عشر عضوا من الوزراء والمسؤولين الحاليين والسابقين ، يفترض أنهم أصحاب خبرة بالإدارة، استعانوا بالعديد من الخبراء المحليين والأجانب ، استغرقوا كل هذه المدة للتعرف إلى الوضع الإداري القائم، وهي نصف الوقت المحدد لإكمال المهمة ، حيث من المتوقع أن تعلن اللجنة نتائج أعمالها نهاية أيار القادم.
على مدى مائة عام ، لم ينقطع الحديث عن إصلاح الإدارة العامة، كل كتب التكليف للحكومات أشارت لذلك، أنشأنا وزارات للتنمية الإدارية والتطوير الإداري ، ووزراء لتطوير الأداء المؤسسي، وهيئات ولجانا لا تحصى ، وورشات وندوات، كلفت الدولة مئات الملايين، والآن يصارحنا نائب رئيس اللجنة بأنهم أنجزوا مهمة الاستكشاف فقط، وأن مرحلتي تحديد المسارات والإجراءات، وصولا لوضع خطة تنفيذية مع خارطة طريق، تحتاجان لثلاثة شهور أخرى.
أترك التعليق للقارئ الكريم، علما أن المدة التي استغرقتها لجنة تحديث المنظومة السياسية لم تتجاوز الثلاثة شهور، فيما أنجزت الورشات الاقتصادية بالديوان الملكي عملها بأقل من شهر، المشكلة ليست بالتوقيت فقط، وإنما ، أيضا، بالقناعات والتصورات العامة، استوقفتني نقطة هنا، وهي أن الانطباع العام لدى بعض المسؤولين حول فشل تطوير القطاع الحكومي ينصرف لتحميل المجتمع مسؤولية ذلك، فالأردنيون اعتادوا على المحسوبية والواسطة للحصول على وظيفة أو خدمة، ولا يمكن ، حسب هؤلاء المسؤولين، إجراء أية عملية تحديث ناجحة ، ما لم يغير المجتمع ثقافته!
أخشى أن يكون داخل اللجنة من يتبنى مثل هذا الانطباع غير الصحيح، ليس للهروب من المشكلة ووضع حلول لها ، وإنما لتعليقها لعقود قادمة، الحكومات ، بلا استثناء ، هي المسؤولة عن أزمة القطاع العام، وهي السبب ، أيضا، بإشاعة هذه الثقافة وترسيخها لدي الأردنيين، وبالتالي فإن تجاوزها يقع على كاهل اللجنة أولا ، والحكومات والإدارات ثانيا، أما لماذا هي السبب ، فيكفي أن نستعرض حالات التعيين ببعض الوظائف العامة ، خاصة على مستوى القيادات الإدارية، وكيف ينزل البعض بالبراشوت، أو يتدخل أصحاب النفوذ لتعيين الأقارب والمحاسيب، لندرك أن غياب العدالة ، وتكافؤ الفرص، واعوجاج مسطرة التوظيف والترقيات والحوافز والمساءلة.. وغيرها ، أفعال حكومية لا دخل للمجتمع بها ، بل هو ضحيتها على الدوام.
نقطة ثانية مهمة، وهي أن لدى اللجنة ، حسبما فهمت، تصورا بمأسسة القطاع العام وفق نموذج القطاع الخاص ، هذا التصور خطير لأنه يتعلق بمفهوم إدارة الشركة الذي حاول البعض ، فيما مضى، تعميمه على الدولة، رغم الاختلاف بين منطق الدولة ومنطق الشركة، كما يتعلق ، أيضا، بعدم فهم المناخات والاعتبارات الاجتماعية والسياسية الخاصة بالوظائف في القطاع العام ، وهي مختلفة تماما عنها بالقطاع الخاص.
المسألة، هنا ، لا علاقة لها بالانضباطية والفاعلية والحوكمة ، ووضع معايير للمحاسبة والرقابة ، فهذه متطلبات أساسية لتحديث الإدارة ، وزيادة الإنتاجية ، وتحسين الخدمة، سواء بالقطاع العام أو الخاص ، المشكلة أن البعض يفكر بأبعد من ذلك في سياق تعميم مفهوم إدارة الشركة، حيث ترشيق القطاع العام بتسريح الموظفين بلا معايير عادلة ، أو فتح المجال أمان “نظام عقود” لاستقطاب الخبراء برواتب فلكية ، مع بقاء مظلة المحسوبية ، لا سيما وأن هؤلاء الخبراء والمبدعين غالبا ما يشار إلى أنهم خريجو جامعات أجنبية ، أو غير ذلك من تغييرات في بنية وقيم الوظيفة العامة ، وفهمكم كفاية.
أسوق هذه الملاحظات لاعتبارين، الأول أن اللجنة ، منذ تشكيلها، ظلت تعمل داخل الغرف المغلقة، ولم يخرج عنها أي معلومات أو تصريحات إلا مرة واحدة (لقاء نائب اللجنة ، وزير التخطيط ، مع عدد من الإعلاميين قبل خمسة أيام)، وهو لقاء تركز على الخطوط العريضة فقط، وأخشى ما أخشاه ، أن نتفاجأ بالنتائج ، الأمر الذي يستدعي أن تفتح اللجنة حوارات مع المعنيين بالإدارة ومع الإعلاميين ، لوضع المجتمع بصورة ما تفكر به ، قبل أن تصطدم بالردود على مقترحاتها.
أما الاعتبار الثاني ، فهو أنني على ضوء ما سمعته من تصورات حول الموضوع ، أطالب رئيس الوزراء ، باعتباره رئيسا للجنة، أن يتدخل بشكل مباشر لضبط حركة واتجاهات عمل اللجنة ، على قاعدة أن المعني بالتحديث هو قطاع إدارة الدولة ، وليس إدارة “شركة” ، وأن من يتحمل مسؤولية ذلك هو الحكومات لا ثقافة المجتمع ، وأن انتصاب موازين العدالة قرار رسمي وليس شعبيا، وأن المسألة برمتها تحتاج لعمليات جراحية عميقة وجريئة ، وليس مجرد مقترحات تشريعية أو هيكلة تجميلية ، أو “أتمته” بالقطعة والتقسيط، يقدمها خبراء لا نعرف من هم.