ضاع خطباء المساجد في المملكة بين خطبة جمعة معدّة مسبقا ومرسلة الى مديريّات الأوقاف من أجل التقيّد بها وبين أفكار وكلمات يكون الخطيب قدّ حضّرها من أجل القائها على المصلّين في المساجد ، وكأن الخطبة أصبحت من مهمّات الوزارة التي يقول معالي وزيرها أنّ بعض معتلي المنابر ينحرفون في كلامهم عن المعنى الحقيقي لخطبة الجمعة ويتحدّثون بأمور لا تعني المصّلين أو أنّهم يرّوجون لأفكار متطرّفة لا تفيد المجتمع وانّما تغذّي الفرقة والبغضاء بين أفراده ، وأنّ من مهمات الخطيب في يوم الجمعة أن يكون حديثه فقط في ما يسمح له بالحديث عنه مثل التسامح والرفق والمحبّة بين الناس أو الصدقة والكرم وغيرها من الامور التي لا تتطرّق الى السياسة بشيء.
والخطابة التي هي فن التأثير على الحضور واستمالتهم واقناعهم بالأمور التي يتحدّث عنها الخطيب ، الذي عليه أن يمتلك مواصفات خاصّة لا نجدها عند كثير من خطباء هذه الأيّام مثل الادراك العميق والفهم للحياة وأحوالها ، وأن يكون جهور الصوت حسن النبرة وحسن المظهر وأن يكون القاؤه محكم وأن لا يتأتأ أو يتردد وأن يتجنب التكرار الممل والحركات غير المرغوبة وأن يكون كلامه جامع لقواعد اللغة من نحو وصرف وبلاغة وأن لا يستخدم الكلمات العاميّة وأن يكون النص سهل اللغة لا طويل ولا قصير لأنّ الخطيب الماهر هو من يقنع الناس بضرب الأمثلة الواقعيّة وتقديم الأدلة والبراهين التي تقنع السامعين فيعملوا بها
الحريّة في القول من أهم أسباب نجاح الخطبة ، وافساح المجال للخطيب الذي يمتلك المؤهّلات التي تجعل منه خطيبا ناجحا أن يقول في خطبته ما يشاء في حدود موضوعها لإيصال فكرته واقناع الناس بها ، أمّا اذا تمّ حصر الخطباء في خطبة مكتوبة ، مكرر موضوعها ومتوّفرة على المواقع الالكترونيّة بصيغتها أو قريب منها ، فلا يكون لها أيّ تأثير على الناس ، وبعضهم سيأخذ اغفاءة طويلة الى أن تنتهي الخطبة . والخطبة الجيّدة هي التي يلقيها الخطيب من دون ورقة مكتوب فيها ما سيقول ، وخصوصا اذا كانت الكلمات غير واضحة ولا يعرف أن ينطقها من أوّل مرّة وهذا ما يحصل مع بعض الخطباء .
حضرت قبل عشر سنوات مؤتمرا هندسيا في دولة عربيّة ، وكان من ضمن المتحدّثين في حفل الافتتاح ، كما عرّفه عريف الحفل ، المفتي العام للجمهوريّة ، ولا أدري لماذا أعطوه المجال للتحدّث في مؤتمر هندسي ، وكان مما قال أنّ صلاة الجمعة هي مؤتمر للمسلمين ولا بدّ من أن تتدخّل الدولة في هذا المؤتمر ، ويعني خطبة الجمعة ، لتحديد ما الذي يمكن أن يقال فيها وبحدود ما يخدم سياسة الدولة ، التي لم يبق منها في هذه الأيّام الّا أطلال دولة بسبب من القبضة الحديديّة التي كانت تستخدم لمراقبة الناس في كلّ ما يفعلون وهذا ما لا نريده لوطننا ولا نحّب أن يكون .
يا معالي الوزير ، أترك الخطباء يقولون ما يريدون ، فالتطرّف ليس نتاج للكلمات التي تقال على المنبر ، وانما نتاج للفساد والمحسوبيّة والواسطة وغلاء الأسعار والفقر الذي ينخر في عظام الناس والبطالة والتحيّز للغني ضد الفقير .
أخاف ، في المستقبل ، أن نحضر خطبة في يوم جمعة لخطيب واحد في عمّان تنقلها شاشات عرض الى مساجد المملكة عن طريق الانترنت بحجّة التطوير والتحديث .
د . عودة أبو درويش