صراحة نيوز – بقلم موسى العدوان
اعتادت حكوماتنا المتعاقبة أن تخصص سُلفا مالية شهرية، لبعض الوزراء وبعض رؤساء الدوائر الأخرى. والغاية منها هي إنفاقها في قضايا إدارية أو أمنية تتعلق بمصلحة الوطن. تتراوح قيمة هذه السُلف بين بضعة آلاف إلى مئات الآلاف شهريا، اعتمادا على مهمة الوزارة أو الدائرة المعنية. وتتضاعف قيمة هذه السلف إذا كانت هناك انتخابات نيابية أو مناسبات معينة.
من المعروف أن المال يشكل إغراء للبشر إذا وقع بين أيديهم، والنفس البشرية أمارة بالسوء، إذا لم تكن هناك وسيلة لضبط إنفاقه والتصرف به حسب غايته. ونحن في دول العالم الثالث على وجه الخصوص، لسنا من الملائكة أو من أهل المدينة الفاضلة. فقد يكون بيننا منهم حريصون على حفظ المال العام، باعتباره أمانة في أعناقهم فيحسنون التصرف. ومنهم من يكونوا عكس ذلك لا يجدون حرجا في السطو على المال العام إن وقع بين أيديهم، ويتصرفون به لمصالحهم الشخصية، والشواهد على ذلك كثيرة هذه الأيام.
إزاء هذه الحالة ذات الوجهين أتساءل : كيف نضع تحت تصرف بعض المسؤولين مئات الآلاف من الدنانير شهريا، ونطلب منهم التصرف بها خدمة للمصلحة العامة دون أن يقدموا إثباتا بذلك ؟ هل يعقل أن نكتفي بقصاصة ورق يُكتب عليها ” صُرف بمعرفتي ” ؟ وهل يمكن اعتبار هذه العبارة ذات الكلمتين شهادة غير قابلة للطعن، ولا تخضع لتدقيق ديوان المحاسبة ؟ ألا يشكل هذا الأسلوب في التصرف بالمال العام، إغراء للنفس البشرية كي تنخرط بالفساد بتشجيع حكومي ؟
وهنا أحب أن أتحدث عن حالة نادرة وقعت في الأردن، أقدَم عليها الشيخ نوح القضاة رحمه الله – وهو من تشرفت بزمالته في الخدمة العسكرية، عندما كان يعمل في دائرة إفتاء القوات المسلحة من رتبة ملازم وحتى لواء – فبعد أن تقاعد من الخدمة العسكرية عام 1992، عُيّن في عدة مناصب مدنية عليا في الدولة كان آخرها مفتي عام المملكة.
وحين قدم استقالته الطوعية من ذلك المنصب عام 2010، كان قد أعاد لخزينة الدولة وفرا ماليا من دائرة الإفتاء بما مجموعه ( 1,2 مليون دينار ). ثم أعاد للمديرية جميع الهدايا التي قُدمت له باعتبارها قُدمت لمنصبه وليس له شخصيا. وعندما سؤل من قبل البعض لماذا أعدت هذا المبلغ للخزينة ولم تأخذه لنفسك ؟ أجاب بأن هذا حق للدولة وهو أمانة بين يدي لا أتجرأ على خيانتها.
ومن جانب آخر، حدثني صديق كان قد عمل في بعض الدوائر الرسمية لفترة طويلة، بأن أحد الوزراء كان موفدا بزيارة رسمية خارج البلاد، وصدف أن استقالت الحكومة خلال غيابه. وعندما عاد لأرض الوطن بعد بضعة أيام من حل الوزارة، سارع إلى مكتبه السابق وطلب من وزير المالية صرف السُلفة الشهرية المقررة لمنصبه فصرفها له بمبلغ كبير. وما كان من معاليه إلا أن استحوذ عليه لشخصه الكريم رغم أنه فاقد للمنصب، وقدم مقابله الشهادة المجروحة : ” صُرف بمعرفتي ” وهو صادق بما فعل . . إذ صرفه لنفسه ومثله كثيرون.
يقول ميكافيلي : ” البشر خبثاء . . يتمسكون بالمصالح المادية، وهم على استعداد لتغيير أهوائهم وعواطفهم بسرعة البرق في اتجاه مصالحهم. لذا ترى أحدهم يحزن بلا حدود إذا نُزعت منه مُلْكية أي شيء، فالحزن على المال يفوق حزن البشر على الأب أو الأخ لأن الميت يُنسى، أما الثروة المفقودة فتظل حية في الذاكرة والمشاعر “.
هناك الكثير مما يمكن الحديث عنه في هذا المجال، والذي يتداوله الناس في مجلساهم الخاصة صدقا أو كذبا، تحت مسمى تحسين الأحوال المالية بمبالغ كبيرة، أو صرف شيكات شهرية علاوة على الرواتب المعلنة، أو منح الأصدقاء والأقرباء أعطيات مالية وعينية دون أية ضوابط.
أعتقد أن هذا الأسلوب الذي تتبعه الحكومات الأردنية المتعاقبة، في التصرف بالمال العام، يشكل هدرا وفسادا لثروة الوطن بتعليمات رسمية. فالمال العام هو حق للشعب ويجب أن لا يكون مستباحا. فالحفاظ عليه واجب يقع على كاهل المسؤولين في مختلف مواقعهم.
وإن كان لابد من تخصيص تلك السُلف المالية لبعض المسؤولين، من أجل إنفاقها في مصالح وطنية، فأرى أن يتم ضبطها من خلال سندات قبض، وأوراق رسمية قابلة لتدقيق ديوان المحاسبة. فهل سيصغي دولة الرئيس الرزاز لهذه النصيحة، في التعامل بالمال العام ويلغي أسلوب : ” صُرف بمعرفتي “، تحقيقا للنزاهة ودرءا للشبهات، التي يشهرها دولته في مختلف المناسبات ؟
التاريخ : 26 / 12 / 2018