مذ أطلقت نقابة المعلمين عبارة (نحن كما نحن) فَهِم العارفون باللغة أن بين السطور أمرا، وانتظروا التفسير فقط، وقد جاء حسب التوقعات: نحترم القضاء، لكننا لن نتوقف، وهنا يبرز الفرق بين النقابة والحكومة ألا وهو العمل بذكاء إضافة إلى عملها الأساس من حماية منتسبيها والدفاع عن حقوقهم. فالنقابة مصرة على طلباتها المستحقة من الاعتذار والـــــ 50 بالمئة وإلا، فالاستمرار في الاضراب مما بات ينبئ بمخاطر جديدة ومتصاعدة.
إن استمرار الإضراب بات مشكلة، لكن إذلال المعلم مشكلة أيضا، وجرح عميق في الوجدان الشعبي الأردني. المناخ يتصاعد التهابا في الساحة المحلية الأردنية وينبئ عن مواجهات جديدة بين الطرفين ومخاطر كبيرة إذا مرت عطلة نهاية الأسبوع دون إيجاد الحل المرضي للجميع، ولكننا تعودنا في الأردن أن الأزمات –بإذن الله- تنفرج إذا ما اشتدت بما قيض الله لهذا البلد من عقلاء يقدمون مصلحته على كل شيء.
نقابة المعلمين عبرت عما يشغل بال الناس وتناغمت معهم، فجاء فعلها محققا لما كان يتطلع إلى رؤيته في ممثليهم من النواب، لقد لامست شغاف قلوب منتسبيها وغير منتسبيها؛ لأنها عزفت على همومهم ومواجعهم من الفقر والبطالة وارتفاع الأسعار والضرائب دون أي نجاح يتحقق في تحسين الاقتصاد وسداد المديونية؛ لذا تطلع الجميع لضرورة ان يكون له نقابة على شاكلتها، فالمعلم يعيد تشكيل الوعي الوطني، ويؤكد على تقديم الكرامة الأردنية التي ظن كثيرون أنها اهتزت في السنوات الأخيرة والأردن اليوم أقوى من أي وقت مضى باتحاد غالبية شعبه ووفائهم ودعمهم لمعلميهم .
فهل تعود الحكومة عن تصرفاتها المحرجة السابقة بما يعكس عدم الفهم بقوانين الإضراب، وشرعيته، وعمل النقابات… فالتهديد والوعيد والاستعلاء وأساليب شيطنة المعلمين ونقابتهم والاعتداء على مدارس المعلمات في مخالفة صارخة للأعراف المجتمعية… باءت جميعها بالفشل الذريع، بل زادت من قوة النقابة، وانتشارها، فبات يطلق عليها اليوم نقابة الشعب الأردني، وظهرت إمكانية تشبيك وتحالف قوى أخرى معها، واحتمال تحولها إلى حزب سياسي في حال حلها.
إذًا كيف ستجبر الحكومة أكثر من 120 ألف معلم على الالتزام بالدوام؟ وكيف سيتصرف من معهم من طلبة وأولياء أمور يقدر عددهم بأكثر من 4 مليون وقد حشد غالبيتهم مع المعلم، إضافة إلى أن عددا كبيرا من أفراد المجتمع الكادح أصبح إلى جانبهم؛ بعبارة أخرى غالبية المجتمع الأردني…
ولعل المحزن في كل ما يحدث غياب الحقيقة، وكثرة الشائعات بحيث تؤثر جميعها في تأجيج الغضب الشعبي، وانتشار الكوميديا السوداء، ومن ثم الفوضى بدعم كبير من وسائل التواصل الاجتماعي.
لقد كشفت أزمة المعلمين، بل أكدت مخاوف كان كثير منا يعيشها في السنوات الماضية، ألا وهي حجم أزمة الثقة بين الحكومة والمواطن، ولعل مجريات الحدث خلال الأسابيع الماضية كانت تعلن عن نفسها كل يوم، كما كشفت في المقابل عن ذكاء المواطن في القراءة المقارنة لسلوك الطرفين.
حالة انسداد الأفق التفاوضي التي وصلنا إليها يمكن حلها اليوم بتغليب المصلحة الوطنية عند الجميع، فالاعتذار للمجتمع الأردني عامة، وللمعلم خاصة لا يقلل من هيبة الحكومة، بل على العكس من ذلك وعبارة (سلوك فردي وسنتحقق من أي تجاوزات حدثت…) عبارة أصبحت معروفة في مثل هذه الظروف، فهيبة الأردنيين تكمن في هيبة مؤسساته الوطنية، والحكومة ونقابة المعلمين منها، ولا مصلحة لأحد في إضعاف أي منهما، أما العلاوة المالية، فيمكن تحقيقها بما يرضي جميع الأطراف، وإلا فلا بد من تدخل الملك الذي بات مطلبا ملحا إذا وصل الطرفان الى طريق مسدودة من جديد.