صراحة نيوز – بقلم موسى العدوان
في هذا اليوم 14 نوفمبر/ تشرين ثاني، والذي يصادف ذكرى ميلاد جلالة الملك حسين طيب الله ثراه، أودّ أن أروي قصة تسامح، أسبغها عليّ جلالته قبل 32 عاما، وذلك شهادة لفضله ووفاء لروحه أمام الله والتاريخ، خاصة وأن بعض من شهدوها من الزملاء، ما زالوا على قيد الحياة أمد الله بأعمارهم.
فبعد أن أنهيت دورة كلية الحرب الأمريكية في منتصف عام 1987 وعدت إلى الأردن، رُفعت إلى رتبة لواء وعُينت قائدا للفرقة الآلية 12 الملكية. كانت الفرقة تشغل القاطع الشمالي الغربي من الأردن، بمساحة تبلغ 1572 كيلو مترا مربعا، وبواجهتين طولهما 180 كيلومترا، الأولى على نهر الأردن، مقابل الأراضي الفلسطينية المحتلة، والثانية على نهر اليرموك مقابل أراضي الجولان السورية المحتلة.
وفي أواسط عام 1988 شرع الحسين بزيارات مبرمجة إلى محافظات المملكة، كي يتحدث للمواطنين عن الأحوال السائدة في المنطقة سياسيا واقتصاديا وأمنيا. حُدد يوم الزيارة لمحافظة إربد في يوم صيفي جميل، وطُلب مني تولي النواحي الأمنية لزيارة جلالته، فأسندْتُ تلك المهمة لأحد قادة الألوية التي بإمرتي. كان برنامج الزيارة يتضمن هبوط الطائرة العمودية لجلالته، في جامعة العلوم والتكنولوجيا، ثم يستقل السيارة في موكبه الملكي، ليتوقف في موقعي تجمع للمواطنين، الأول في مدينة النعّيمة، والثاني في مبنى محافظة إربد.
هبطت الطائرة في الموقع المحدد ثم بدأ تنفيذ برنامج الزيارة، إذ توقف الموكب في مدينة النعيّمة وتحدث جلالته للحضور، ثم أخذ يتجاذب أطراف الحديث مع بعض شخصيات المنطقة. وخلال تلك الفترة اختلى بي القائد العام سيادة الشريف زيد بن شاكر عليه رحمة الله، وقال لي : ” سيدنا شاهد أحد جنود الحراسات يؤدي التحية العسكرية برفع يده إلى جبينه، وهو يحمل البندقية باليد الأخرى “. فقلت له : ” إن الأوامر عند جنود الحراسات، بأن يتجهوا إلى جهة معاكسة لطريق الموكب، وأن لا يؤدون التحية لأي زائر، لكون مهمتهم هي الحراسة وليس المراسم، وأن مرتكب هذا الخطأ هو مكلّف حديث الخدمة، وتصرف من تلقاء نفسه احتراما لجلالته “.
انتقلنا بعد ذلك إلى الموقع الثاني في مبنى محافظة أربد، وكان المحافظ آنذاك السيد جودت السبول رحمة الله عليه. وبعد حديث جلالته للمواطنين، راح كعادته يتحدث مع بعض شخصيات المنطقة. وفي تلك الأثناء أشار لي القائد العام بالاقتراب من جلالته، والذي بادرني بتكرار ما قاله لي القائد العام، فأجبته بنفس إجابتي السابقة للقائد العام، وبأنني سأتخذ الإجراء المناسب لاحقا.
بعد يومين دُعيت مع كبار ضباط القوات المسلحة، لاجتماع في إحدى قاعات مدينة الحسين الطبية، للاستماع إلى حديث جلالته حول الأوضاع الراهنة. وفي نهاية الحديث، عرّج جلالته على الاهتمام بالتدريب في القوات المسلحة وإعدادها لمهامها المستقبلية واستطرد قائلا : ” قبل أيام كنت في زيارة لإحدى المحافظات، وشاهدت جنديا يؤدي التحية برفع يده بالتحية إلى جبينه، بينما يحمل في يده الأخرى بندقيته . . مش عارف هذا التدريب من وين جاي ؟ “. شعرت في هذه اللحظة أن هذا النقد موجه لي، فانتابتني موجة من الغضب الشديد كادت أن تفقدني صوابي.
وفي نهاية اللقاء دُعي الجميع لتناول طعام الغداء في قاعة أخرى. وبدأ الحضور بالنهوض من مقاعدهم والتقدم نحو جلالته للسلام عليه، والانتقال إلى قاعة الطعام، ولكنني وقفت في مكاني ولم أشأ التحرك، سامحا للآخرين بالمرور من جانبي على مرأى من جلالته، فلاحظ بحسه المرهف، أنني قد تأثرت بهذا النقد الذي تحدث به. وبعد بضع دقائق تحركت من مكاني وسلّمت عليه، حيث بادرني بالقول وبأدبه الجمّ : ” يا أخي أنا متأسف . . وكان حديثا عابرا “، فأجبته بنبرة لا تخلو من الغضب : ” بسيطة سيدي “.
ذهبنا إلى قاعة الطعام، وكانت طاولة المنسف التي أقف حولها مع زملائي كبار الضباط، تبعد عن طاولة جلالته وبمعيته القائد العام ورئيس الأركان ومساعديه بضع خطوات. لم استطع تناول الطعام من شدة الغضب، إذ كنت أحس بأن مذاقه كمذاق التراب. فدعاني زميلي الذي كان يقف بجانبي اللواء الركن محمد سلامه الحويان رحمه الله، لتناول الطعام محاولا التخفيف من غضبي حول هذا الموضوع.
ولكني في تلك اللحظة انفجرت بصوت مرتفع سمعه جميع من كانوا في القاعة قائلا : ” خمس شباب من القوات الخاصة استشهدوا في البحر الميت، نتيجة لخطأ بعض المسؤولين . . ما حدا سمع عنهم . . صاروخ أنطلق خطأ من طائرة مقاتلة وهي جاثمة على الأرض ودمّر طائرة أخرى . . ما حدا سمع عنه . . أمّا مكلف أدى التحية خطأ . . لازم يسمع عنه كل الناس في الأردن . . !
كان من ضمن الواقفين إلى جانبي أيضا مدير الأمن العسكري، العميد الركن ذيب سليمان، فانطلق إلى القائد العام وأشعره بغضبي الشديد، فقال له سيادته ناديه ييجي عندنا. فعاد إلي ذيب وقال بدهم إياك عندهم، فأجبته بصوت مرتفع : ” أنا ما بدي إياهم . . ولا بدي المكان اللي هم موجودين فيه ” وخرجت فورا من القاعة.
بعد يومين من ذلك الاجتماع، أتصل معي مساء القائد العام الشريف زيد شخصيا من منزله، وأبلغني بأن جلالته سيذهب عصر غد يوم الجمعة إلى السنّ ( في منطقة أم قيس) ليقضي بعض الوقت في استراحته هناك. كان موقع الاستراحة عبارة عن بناية بريفاب بسيطة، تطلّ على مناظر جميلة في على الأراضي الفلسطينية المحتلة وبحيرة طبريا من جهة الغرب، وهضبة الجولان المحتلة من جهة الشمال. فسألته ما هو المطلوب مني ؟ فقال تتواجد هناك لتكون في استقباله فقط.
تواجدتُ في المكان بالوقت المحدد، وأحضرت معي قائد اللواء المسؤول في المنطقة العميد الركن محمد كريشان. هبطت الطائرة العمودية الوحيدة التي كانت تقل جلالته والملكة نور مع بنتيهما الصغيرتين في الموعد المحدد، فتقدمنا ورحبنا بهم. وقبل أن يتوجه جلالته إلى استراحته، وضع يده على كتفي ورحنا نسير منفردين لمسافة قصيرة، ليسألني عن أحوالي وإن كنت بحاجة لشيء معين ؟ فأجبنه بأنني بخير وأحمد لله ولا ينقصني شيئا، سوى الدعاء بسلامة جلالته وسلامة بلدنا.
ولكن جلالته أعاد العرض عليّ مرة ثانية، سائلا إن كنت أنا أو عائلتي بحاجة لأي شيء ليوفره لنا، ولكنني أكدت ما قلت له قبل قليل، شاكرا له اهتمامه بي وبعائلتي. عند ذلك أبدى رغبته بزيارته للفرقة والاجتماع بمرتباتها، فرحبت بزيارته في أي وقت. أمضى جلالته بعض الوقت في استراحته وعاد إلى قصره في عمان، ثم نفّذ زيارة الفرقة في وقت لاحق.
هذا هو الحسين المتسامح، والقائد الذي كان يقرأ نفسيات جنوده ويراعي مشاعرهم . . هذا هو الحسين الذي كان يعرف الطبيعة البشرية ويحترم أبناء شعبه. فقد أعتذر لي عن حديثه في قاعة المدينة الطبية بعد دقائق فقط من إنهاء حديثه، لم يحقد ولم يحاسبني على ثورتي الغاضبة ومغادرتي قاعة الطعام، خلال وجوده، بل جاء إلى الفرقة التي أقودها، للاعتذار عن تلك القصة العارضة، بأسلوب الملوك العظماء المتواضعين، الذين يقدّرون من يعمل بمعيتهم في خدمة الوطن بشرف وإخلاص.
استمريت في قيادة الفرقة بعد هذه الحادثة لمدة سنتين، ثم عُينت مساعدا لرئيس الأركان للقوى البشرية، وبعدها للتخطيط والتنظيم والحرب الإلكترونية، لما يزيد عن خمس سنوات، حيث رُفّعت خلالها إلى رتبة فريق، قبل إحالتي إلى التقاعد في أوائل عام 1995.
عندما نتذكر الحسين في يوم ميلاده، وبعد 21 عاما على غيابه، إنما نتذكر عهد البناء والتطور في الأردن إبان حكمه، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وتبوء الأردن مكانة رفيعة بين دول العالم. ولهذا امتلك الحسين قلوب جنوده ومواطنيه، فيذكرونه بالخير كلما أشرقت الشمس، أو هطلت حبات المطر على تراب الأردن، ويفتقدون كلما ادلهمّت عليهم الخطوب داخليا وخارجيا.
في الختام لا يسعني إلا القول : رحم الله الحسين المتسامح، باني حضارة الأردن، ومالك قلوب شعبه حيّا وميتا، وأسكنه جنة الفردوس الأعلى مع الشهداء والصديقين، وحَسنُ أولئك رفيقا . . !
التاريخ : 14 / 11 / 2020