صراحة نيوز – بقلم موسى العدوان من أهم ميزات الخدمة العسكرية، أنها تعزز المفاهيم الاجتماعية والأخلاقية، وتوسع دائرة التعارف والصداقة بين منتسبيها، ومن ينضمون للخدمة من مختلف مناطق المملكة.
ومع مرور الزمن تزداد هذه العلاقة رسوخا لتتحول إلى صداقة حميمة، تربط الكثيرين منهم ببعضهم. فتستمر لفترات طويلة تمتد إلى ما بعد الخدمة العسكرية. ولكن قد تكون تلك الصداقة، أكثر تماسكا بين رجال وحدات الميدان منها بين الرجال الفنيين والإداريين، الذين يخدمون في وحدات القاعدة، لأن رجال المبدان يعيشون حياتهم اليومية مع بعضهم، سواء في معسكراتهم أو في أعمالهم الميدانية، أكثر مما يعيشون مع أهاليهم وأقاربهم. ولا شك بأن الرابط بين منتسبي القوات المسلحة عموما، أقوى منه بين منتسبي المؤسسات المدنية الرسمية والمدنية، لكون النوع الأول منهم يواجهون خطر الاشتباك مع العدو، الأمر الذي يضطرهم إلى التماسك والتعاون، لمواجهة الخطر المحتمل الذي ينتظرهم في المستقبل.
إن طبيعة الوحدات الميدانية والعيش سويا معظم الوقت، مع توقع المخاطر في أية لحظة، يعمل على توطيد الصداقة الحقيقية والفداء، وتوحيد الجهد لتحقيق هدف نبيل يخدم مصلحة الوطن. وهذا ما يميز الخدمة العسكرية عن الخدمة المدنية.
فخلال خدمتي في القوات المسلحة التي زادت عن 37 عاما، كسبت خلالها العديد من الأصدقاء الذين كانوا بمثابة الأشقّاء، وأعتز بصداقتهم أحياء أو أمواتا على مدى الحياة. كان من بينهم على سبيل المثال ضابط صديق من عشيرة كريمة اسمه سامي القاضي.
فقد تزاملت مع هذا الرجل في بداية حياتي العسكرية، عندما كنت بسن السابعة عشرة عاما، من خلال مشاركتنا بدورة الضباط الأولي في الكلية العسكرية الملكية بالزرقاء، في نهاية عقد الخمسينات الماضي. علما بأنه جاء من خلفية عسكرية، بينما جئت أنا من خلفية مدنية، فكان يرشدني وزملائي المدنيين، إلى بعض التقاليد العسكرية التي نجهلها بحكم خبرته السابقة. تلك الزمالة إلى صداقة حميمة استمرت لسنوات طويلة.
بعد أن تخرجنا من الكلية العسكرية برتبة ملازم ثاني، نُقلنا إلى السلاح المدرع وذهب كل منا في طريقه، هو في كتيبة دبابات وأنا في كتيبة مشاة آلية. ولكن الصداقة بقيت مستمرة لعقود طويلة لاحقة، إذ كنا نلتقي في الدورات العسكرية، وفي المناسبات الوطنية والاجتماعية، نتبادل خلالها الذكريات والأحاديث الودية بكل احترام.
بعد فترة معينة وصل سامي إلى رتبة عقيد، ثم أحيل إلى التقاعد نظرا لطول خدمته، بينما استمريت أنا في الخدمة العسكرية ووصلت إلى رتبة عميد، ثم عينت مديرا لشؤون الضباط في أواسط عقد الثمانينات. في أحد الأيام اتصل معي صديقي المتقاعد سامي طلبا مقابلتي فرحبْتُ به، ( ولم أعامله كمعاملة خيّالة الوظائف هذه الأيام، الذين يتنكرون لمن سبقهم في الخدمة ). وبعد أن قدمت له واجب الضيافة سألته عن حاجته، فأجاب بأنه يرغب بتجنيد ابنه الجامعي ( جميل ) ضابطا في القوات المسلحة. فقلت له طلبك مجابا واعتبره معينا في مديرية التوجيه المعنوي منذ الآن، لكونه يحمل شهادة البكالوريوس في الصحافة والإعلام. وبعد مرور سنوات عديدة جاء سامي ( قبل أن ينتقل إلى رحمة الله ) ليزورني في القيادة العامة، في أوائل التسعينات عندما كنت مساعدا لرئيس الأركان للقوى البشرية. وبعد أن تجاذبنا أطراف الحديث سألته عن وضع ابنه جميل. فقال أنه أصبح برتبة نقيب ويعمل اليوم مدربا في جامعة مؤتة، ولسانه أشدّ بلاغة من لسان أبيه. قلت له كيف ذلك؟ أجاب بأنه بعد الاحتفال بتخريج مرشحي جامعة مؤتة في ذلك العام، اصطف الخريجون في ساحة الكلية بطابور منتظم حسب الأقدمية، لاستلام شهادات التخرج من رئيس هيئة الأركان المشتركة. نادى جميل على أحد ضباط الصف وقال له : اذهب وسجّل لي أسماء آخر ثلاثة في الطابور. استغرب ضابط الصف وسأله لماذا سيدي ؟ فقل جميل : لأن أحد هؤلاء الثلاثة سيكون رئيسا للأركان في المستقبل. فهل تصدق نبوءة الرجل بهذا التقييم هذه الأيام أم لا؟ لا أعلم ذلك . . ! ختاما أترحم على روح صديقي السابق العقيد سامي القاضي، وأمدّ الله بعمر ابنه الرجل الإعلامي جميل، الذي أحيل على التقاعد برتبة عقيد قبل بضع سنوات.