(السياسة الامريكية في هذه الفترة شبيهة بكثبان رملية متحركة، ومن الحكمة الانتظار حتى تهدأ العاصفة فتتوضح الرؤية، باستقرار الخطاب الرئاسي، الذي يمكننا من قياس مدى صلابة التربة والبناء عليها كأساس لسياسات ومواقف مستقبلية)
-1-
جاء الرئيس الامريكي دونالد ترمب وبمصطلح هذه الأيام «من خارج الصندوق»، ذلك لأن له أفكارا وانطباعات وسلوكيات لم نكن لنعهدها من رئيس أمريكي من قبل . تصريحات ومراسيم رئاسية، جميعها لو أخذت طريقها الى النفاذ والتطبيق العملي، كانت سوف تشكل تبدلا جذريا في السياسة الامريكية.
ولكن ولأن الولايات المتحدة دولة عميقة، دولة مؤسسات وقانون، فان كل موقع قيادي بها ومهما علت مرتبته واهميته، فانه لن يستطيع الخروج عن تلك السياسات والثوابت، ولنأخذ أمثلة ..
فقد اصدر الرئيس ترمب « مرسوما» يتعلق بالهجرة، وبموجبه تم منع مواطنين لدول كثيرة «اسلامية» بعدم دخول الولايات المتحدة، بمن فيهم من تحصّل على تأشيرة سبقت هذا المرسوم.
فماذا كانت النتيجة ؟ …
أنْ تصدى القضاء الى ذلك المرسوم معتبرا اياه مخالفة دستورية ولا تنسجم مع القوانين الامريكية …. فأبطل المرسوم الرئاسي
وهو الأمر الذي دفع الرئيس لاصدار مرسوم معدّل للموضوع نفسه، مخففاً من حدة ما جاء في المرسوم الأول.
ليتصدى القضاء ثانية ويبطل هذا المرسوم أيضا !
ونُذكّر بحديث الرئيس ترمب الذي لم يتوقف عن عزمه بناء جدار على طول الحدود مع المكسيك بقصد منع الهجرة والتهريب.
فيكون له القضاء مرة ثالثه بالمرصاد، ويؤول مصير المرسوم الرئاسي الى مصير المراسيم التي سبقته.!
ولقد استعيض عن ذلك بتخصيص بعض الأموال لغاية تحصين الحدود مع المكسيك، وكأني بهم قد ارادوا بهذا التخصيص حفظ ماء وجه الرئيس.. لا أكثر.
حتى أنّ الموقف المعارض للرئيس ترمب من قانون الصحة المعروف بـ «أوباما كير»، فانه لم يمر من الكونغرس الا بشق الأنفس وبفارق صوت واحد، برغم أن الحزب الجمهوري الذي ينتمي اليه الرئيس يتمتع بأغلبية مريحة في مجلسي النواب والشيوخ !
ما يعني أن سياسات الرئيس ترامب ليست مقبولة … حتى في أوساط حزبه
اذا ولان أميركا دولة مؤسسات فعالة، تُقيّد الجميع بمن فيهم الرئيس، فان كل ما يصدر عن البيت الأبيض تصريحا أو كتابة، يتم تفحصه، فإما أن يقر أو يلغى، تبعا لمدى اتفاقه أو تعارضه مع الدستور والقانون المعمول بهما.
-2-
كل تلك كانت أمثلة على التباين الحاد ما بين الرئيس ومؤسسة الحكم في اميركا، فماذا عن مواقف الرئيس ترمب نفسه والتي لم تتسم بالثبات بعد، فقد يطرح موقفا ولا يلبث ان يطرح نقيضه بعد أيام، واليكم بعض الأمثلة ..
فان الرئيس وحال وصوله الى البيت الأبيض كان امتدح الرئيس الأسد، وافضى بما يُفهم منه بأنه على استعداد للتعاون مع الحكومة السورية في مواجهة الارهاب، ليغير موقفه بعد ذلك تماما وينضم الى المعسكر الدولي والاقليمي الذي يطالب بتنحي الاسد!.
وانّ الموقف الاشد غرابة هو ما يتعلق برئيس كوريا الشمالية، فمن هجوم كلامي كاسح على الرئيس «كم جونغ اون»ونظامه الى التصريح بعد ايام قليلة عن رغبته بالاجتماع بالرئيس الكوري، بل وقوله بأنه «يتشرف بلقائه» !. حتى يعود بالأمس عن ذلك ويهدّد بفرض عقوبات صارمة على كوريا الشمالية !
وقد هاجم الرئيس ترمب حلف الناتو، وسجل ملاحظات كثيرة نقدية لأوروبا ودورها في هذا الحلف، الى أن اجتمع بالأمين العام للناتو، ليغير موقفه فيمتدح الناتو ويعلن ان الادارة الامريكية تدعم هذا الحلف وتسعى الى تعزيز قدراته !
وأخيرا، فان الرئيس ترامب كان وعد بنقل السفارة الامريكية الى القدس فور انتخابه، حتى اذا وصل الى البيت الابيض فاكتشف أن «حسابات القرايا تختلف عن حسابات السرايا».. وهو الامر الذي جعله يؤجل أمس الأول اجتماعه باللجنة المكلفة بتنفيذ هذا الامر الخطير. الأمر الذي يؤشر بان نقل السفارة ليس بالامر الهين، خصوصا بعد اجتماعاته بالقادة العرب وعلى رأسهم الملك عبدالله الثاني. فاذا كان الرئيس ترمب يريد فعلا ان يلعب دورا رئيسا بانهاء الصراع العربي-الاسرائيلي فان عليه ان يقوم بدور الوسيط النزيه. وخصوصا انه يتحضر لعقد قمة مع رؤساء عرب ومسلمين بالرياض، الذين سيؤكدون بلا شك للرئيس بان حل المعضلات الاقليمية الراهنة ومجابهة الارهاب واجتثاثه، انما يبدأ بالقضية الفلسطينية على أساس حل الدولتين وان أي حديث آخر لن يكون ذا جدوى ان لم يتضمن الاعتراف بالحقوق الفلسطينية واقامة الدولة عاصمتها القدس الشرقية .
-3-
وبعد، اعود الى مقدمة هذا الحديث، لأقترح بألا يتم اعتماد أي سياسات خاصة بمنطقتنا وبمواضيعها المختلفة الا بعد ان نتعرف إلى حقيقة السياسات التي سوف ينتهجها الرئيس ترمب، لتكون تلك واحدة من عوامل بناء سياساتنا، وخدمة لمصالحنا في الإطارين الوطني الاردني والعربي الاقليمي.
انها بحق مرحلة انتقالية تحتاج الى انتظار وترقب . وبلا شك فإن قمة الرياض القادمة ربما تكون محطة هامة نحو اتباع سياسات ذات جدوى..
سمير حباشنة