يذهب (165) ألف مواطن، ممن يحق لهم الانتخاب، إلى مراكز الانتخابات، يأخذون أوراق الاقتراع، ثم يتوجهون للصندوق ويضعون فيه “أوراقهم” بيضاء، هؤلاء يشكلون أكثر من 10 % من الذين أدلوا بأصواتهم في الانتخابات المحلية التي جرت قبل أسبوع، فلماذا فعلوا ذلك؟ هذا السؤال يبدو وجيها، ليس فقط لأن هذه العينة الكبيرة امتنعت عن التصويت، فلدينا نحو 3 ملايين ناخب امتنعوا أيضا، ولكن لأنها كشفت لنا صورا أخرى غير تلك التي عكسها الذين جلسوا في منازلهم، ولم يحملوا أنفسهم مشقة الخروج، أو الوقوف أمام الصناديق، ما يعني أن هؤلاء الذين يمثلون هذه العينة انتخبوا فعلا، ومارسوا حقهم القانوني، وربما الأخلاقي، لكنهم اشهروا “لا” كبيرة بوجه المترشحين أولا، وقانون الانتخاب ثانيا، والمناخات السياسية والاجتماعية، والانتخابية أيضا. هذه”الأوراق البيضاء”التي أشهرت”لا”، يمكن أن تفهم بأكثر من سياق، بعضها استند على فكرة الاحتجاج على القانون، الذي قسم المجتمع إلى مجاميع وجدت مظلتها بالعشيرة، وحين لم تجد العشيرة مجالا للتوافق على كتلة تمثلها، انقسمت العشيرة نفسها إلى عشائر، وهذا ما حدث على صعيد المحافظات والالوية التي احتدم فيها الصراع الانتخابي بين فئاتها الاجتماعية، حتى وصل إلى العائلة الصغيرة نفسها. يمكن أن تفهم، ثانيا، في سياق عدم الاقتناع بالأسماء والبرامج، فمعظم الذين ترشحوا من أصحاب “الكفاءات” المتواضعة، ولا يوجد لديهم أي برامج واضحة لإنقاذ البلديات أو تفعيل المجالس، كما أن دوافعهم للترشح أغلبها نفعية أو وجاهة اجتماعية، وبعضهم إفراز لأحزاب “اختبأت” خلف عشائر، أو وجوه مكررة لم تقدم أي إنجاز. يمكن أن يفهم، ثالثا، في سياق “تبرئة” الذمة، فهؤلاء تعهدوا أمام مترشحين تربطهم بهم روابط اجتماعية أو مصلحية، أو التزموا بعهود قطعوها على أنفسهم، أن ينتخبوا، وقد فعلوا ذلك إبراء للذمة، ولكنه ابراء “منقوص”، وإن كان يرفع عنهم العتب الاجتماعي أو الضغوطات الاجتماعية. يمكن أن يفهم، رابعا، في سياق “الكيد” الذي يمارسه بعض الناخبين، سواء من جهة الوعود المغشوشة بدافع الانتقام من بعض المترشحين، أو بدافع الحصول على ثمن مقابل أو منافع، وهؤلاء الذين فعلوا ذلك، إنحازوا لسلوكات لا أخلاقية، وأعتقد أن عددهم ليس كبيرا. يمكن أن يفهم في سياق خامس، وهو”المجاملات”الاجتماعية التي تدفع بعض الأردنيين إلى ممارسة نوع من”الشيزوفرينيا”، إذ يضمرون داخل أنفسهم بعض المشاعر والقرارات والقناعات، لكن سرعان ما يفعلون عكسها، سواء بدافع ضميري، أو لحسابات أخرى غير مفهومة أحيانا. ثمة سياقات أخرى، لكن كلها تصب باتجاه “لغة” احتجاج متنوعة اللهجات على العملية الانتخابية، وعلى الواقع أيضا، المهم أن نفهم رسائلها، ونتعامل معها بمنطق آخر، غير الذي سمعناه من بعض المسؤولين حول عزوف الأغلبية من المواطنين عن الانتخابات، استنادا لتصنيفات “الكتلة” الفاعلة وغير الفاعلة، فهؤلاء” فاعلون” نظريا، لكنهم معطلون” بكسر الطاء وفتحها معا” عمليا، وهؤلاء صرفوا يأسهم وإحباطهم بعملة أخرى، لم نألفها في أسواق الاحتجاج المتداولة. “156” ألف ورقة بيضاء، رقم كبير، وربما “لغز” كبير، يحتاج لمن يفكه سياسيا واجتماعيا، ولو كان لدينا مراصد علمية اجتماعية، أو صحافة استقصائية، لتحركت على الفور لاسعافنا بفهم ما حدث، وما دام ذلك لم يحصل حتى الآن، فإن من واجب الهيئة المستقلة للانتخاب، التي أعلن رئيسها هذا “الرقم”، وهو موقف يحسب له، أن تضعنا أمام تفاصيل أخرى لخرائط الانتخابات، لنكتشف حالة مجتمعنا التي تتعمق داخلها إبداعات وفنون الاحتجاج، على حساب العمل والإنتاج.