لم يغب وصفي التل عن ذاكرة الأردنيين منذ 50 عاما على رحيله، هذه بالطبع ميزة لم يحظ بها الا القليل لكن الأهم منها هو استدعاؤه في كل مرة ليشغل الموقع الذي ما زال شاغرا منذ استشهاده. الأموات لا يعودون ووصفي أيضا لن يخرج من ضريحه في “الكمالية” والمقصود بالاستدعاء روح الزعيم وأفكاره وقيم الدولة التي عاش من أجلها ومات، أما المستدعون فهم أغلبية الأردنيين الذين افتقدوا وصفي بعد أن آلهمهم معنى الوطنية الحقة والوطن العزيز. حالة الاستدعاء هذا العام كانت لافتة، البعض صرفها باتجاه الاستغراق بالماضي والبحث فيه عن حلول لما نعانيه من مشكلات أو ربما التعلق بسيرة” البطل” والمنقذ واستحضار ما فعله للتعويض عما ينقصنا، آخرون نظروا إلى وصفي من زاوية الفكرة التي جسدها والقيم التي رسخها سواء على صعيد السياسة التي تولى ادارتها في أصعب الظروف أو صعيد الدفاع عن القضية: قضية الأردن وفلسطين معا. ماذا فعل وصفي لكي يحظى باعتزاز الأردنيين ومحبتهم؟ قائمة الإنجازات أطول مما يحتمل هذا المقال لكن أهم ما فعله وصفي هو إقامة معادلة الدولة الأردنية على ميزان الإخلاص للشعب والعرش معا، والإخلاص هنا في قاموس السياسة مفتوح على كل ما يمكن أن نتخيله من محبة وصدق وثقة ونصيحة، وأسوأ ما يمكن أن يقدمه المسؤول لمن ائتمنه أن يغشه ويخدعه، او يزين له الصورة ويهون أمامه قيمة الحدث فهو حينئذ لا يخلص له وإنما يخلص لنفسه ويمارس دور شاهد الزور ووصفي فعل عكس ذلك تماما. هذه المعادلة توجت وصفي كرجل دولة، وضمنت للبلد استقلاله واستقراره، وأرست دعائم النظام السياسي وحصنته من العابثين والمتزلفين، كما أنها طمأنت الأردنيين على دولتهم ووحدتهم مع قيادتهم وأفرزت منهم أفضل ما لديهم. في سياق هذه المعادلة التي أبدعها وصفي يمكن أن نفهم حركة السياسي الوطني المعارض والموالي نفهم أيضا حركة الحكم والإدارة بناء المؤسسات وأخلاقيات الوظيفة العامة إقامة المشروعات الوطنية الكبرى الانحياز للوجدان الشعبي والاستثمار فيه الالتصاق بالأرض والانتماء إليها. وفي مدرسة وصفي للحكم التي تزاوج فيها الخلق مع العقل تعلم الأردنيون وما زالوا درس الهوية الأردنية (نقطة) ودرس القضية الفلسطينية (مقاومة وتحرير فقط) ودرس الضمير الوطني (يقظ دائما) ودرس المسؤولية حين يكون المسؤول بحجم الموقع وبمستوى القرار. لم يبق من جيل وصفي إلا القليل من الأردنيين (ولد عام 1920) لكن الذين يتذكرونه كمشروع ملهم هم جيل الشباب هؤلاء الذين ولدوا بعد استشهاده بأكثر من عشرين عاما والشهادة هنا ليست السبب الوحيد للاحتفاء بقدر ما هي الدليل على صدق وصفي وشجاعته، والشاهد على القيم التي حملها وجسدها في حياته وأهمها نظافة اليد والاقتراب من الناس وهمومهم، وهي ما نفتقده للأسف في كثيرين ممن اعتلوا المناصب العامة، وتعاملوا مع البلد بمنطق “السلة”، وأورثونا لعنة “اللاثقة” التي ما تزال تطاردنا من كل اتجاه. نحتاج مذكرة استدعاء لوصفي التل؟ ولم لا لكن نريد وصفي المشروع بكل ما يتضمنه من أهداف وتفاصيل، وصفي النموذج الذي يصلح لإعادة الأردنيين لدولتهم وإعادتها إليهم، وصفي الذي زرع الأرض بالأمل فأنبتت مجتمعا حيا معتمدا على نفسه ومؤسسات ومشروعات كبرى وأغنيات وفنون وطنية ونوادي لتدريب الشباب وصحفا ناطقة باسم الدولة، نحتاج “روح” وصفي لترفرف فوقنا من جديد.