صراحة نيوز – كتب الدكتور رجائي حرب
في صلاة الجمعة لهذا الأسبوع تحدث الخطيب عن سورة القصص وعن فرعون وطغيانه في الأرض وادعائه للالوهية وتنكيله ببني إسرائيل في مصر؛ وكيف أن الله سبحانه قد كلف سيدنا موسى عليه السلام وأخاه هارون بحمل رسالة السماء إلى فرعون المتغطرس وملأه؛ فقال تعالى:
( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِين(4).
ومع تأمل سرد الآيات الشريفة وإسقاطها على واقعنا الحالي، وجدت أن فرعون ما زال يعيش بين ظهرانينا، بصورة الهيمنة الغربية؛ وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية المتفلتة، والمتغطرسة والداعية لسحق العالم من أجل مصلحتها ومصلحة البزنس الأمريكي.
إن المتعمق في دورة التاريخ ليجد أن ( تحتمس ) الفرعون المصري و ( بايدن ) الفرعون الأمريكي كأنهما خرجا من رحمٍ واحد؛ رحم البطش والظلم والقوة التي لا تقف عند حدود والمنزوعة الأخلاق؛ ورحم امتلاك السطوة والمال والهيمنة والقدرات البشرية والإعلامية والاقتصاد البراغماتي والتحالفات الممتدة والغائرة في أعماق الحضارات كما امتدادها وملامستها عنان السماء.
إن حضارة الفراعنة المعاصرة التي تمثل حُكْم الشيطان تتحكم بمصير الدول وتعيث في الأرض فساداً، وتعتدي على البشر وتهدم الحضارات بنشر حضارتها الغربية وفرضها على العالم من بوابة العولمة لخلق الأحادية القطبية، وأحادية السيطرة، وتتحكم برقاب الناس بطريقة أو بأخرى وتزدري شعوباً على حساب شعوباً، وتسرق حقوقاً وأموال دول وتعطيها لغير أصحابها، وتستعبد حكاماً وتبتزهم مالياً بحجة المحافظة على وجودهم؛ وتعادي الأديان وتشكك في مصداقيتها وتعمل على تحييد جوانبها الروحانية ليبقى الإنسان مادةً يسهل تفكيكه كما فككوا الجغرافيا وزيفوا التاريخ ومزقوا هوية الإنسان، وسهلوا تمرير الالحاد إلى قلبه؛ قال تعالى
( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ)
وكلما تعمقتُ بمضامين السورة المباركة وجدت أن القرآن الكريم صالح لكل زمان ومكان؛ ووجدت وكأن السورة الكريمة تؤكد أنها تتحدث عن فرعون العصر الحديث؛ ذلك الفرعون المُنطلقُ بالأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، والآمر بالقتل والتطرف والإرهاب، والمتصرف بمصائر البلاد والعباد؛ فتارةً يُهاجم هذه الدولة ليبتزها مالياً، وتارةً يبتز تلك الدولة ليقطع يدها عن امتلاك السلاح النووي؛ وتارةً يحرم دولاً أخرى من التخطيط لتحقيق أحلامها بالتحالف والتعاون مع دول أخرى. وتارةً يسعى لفرض الحلول الخاصة من وجهة نظره لقضايا عالميةٍ شائكةٍ لم يستطع مَنْ هو أقدر منه من زعماء العالم من المساس بها لحساسيتها وخطورتها على السلم العالمي؛ مثل القضية الفلسطينية حين أعلنوا القدس العربية عاصمةً لدولة إسرائيل الغاصبة؛
وما كان هذا إلا بتآمر بعض الدول التي تدعي بأنها عربيةً إسلاميةً وتدافع عن حوبة الإسلام وهي تناصر الباطل وتظلم نفسها وتمتلك ما كان يمتلكه قارون المناصر لفرعون مصر من أموال وكنوز وبترول؛ ولكنها استخدمتها لتحريك عجلة الظلم بدل أن تبتغي فيها وجه الله تعالى وتبني بعوائد بترولها وغازها وثرواتها أمة الإسلام وتدفعها لإخراج المسلمين من بؤسهم المفروض عليهم من دول الشيطان التي تعادي كل الأديان السماوية التي تدعو لتطهير الروح وتوطين الإنسان على عمل الخير والمحبة والتسامح مع الآخرين. قال تعالى:
( إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)
وكان الأولى على هذه الدول القارونية بدل مناصرة قوى الشر ودعم الظلم والبغي أن تبتغي وجه الله تعالى وتشارك في تنمية بلاد المسلمين وترفع الظلم والمعاناة عنهم، ولكنهم ظنوا أن ما لديهم من ثروات هي من صنع أيديهم ومن حقهم التمتع بها وحدهم ومن دون إخوتهم العرب والمسلمين. قال تعالى:
( وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78(
ولم يعلم هؤلاء الواهمون أن الله لهم بالمرصاد؛ وسيأتي يوم الحساب في الدنيا والآخرة، ولن يفيدهم التحالف مع فرعون العصر مهما طال بهم الأمد. لأن الله سبحانه يمهل ولا يهمل. قال تعالى:
( فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ )(83(
إن مئات المليارات التي تم دفعها لفرعون العصر من قبل دول الظلم والنفط والرمل هي التي أطلقت يده في العالم؛ وهي التي شجعت على هدم الدول وقتل البشر تحت مسميات الربيع العربي والحرية والديمقراطية؛ وهي التي دعمت فكرة صفقة القرن التي تريد أن تنتزع قلب الأمة فلسطين وتعطيه إلى مَنْ لا يستحق؛ وترتِّب المنطقة برمتها وتقوم بتقسيمها حسب أهوائها وكما تريد إسرائيل؛ وهي التي أججت الحروب بين العرب؛ وهي التي شردت ملايين أبناء أمتنا؛ وهي التي ساندت حكاماً على شعوبهم؛ وهي التي بمقدورها استدعاء أي مسؤول عربي لتحقق معه وتبتزه وتحتجزه وتبعده عن دياره متجاهلةً كل القيم والأعراف والقوانين الدولية؛ وهي التي تتناسى ثلاث حروبٍ مع إسرائيل واستشهاد عشرات الألوف من أبنائنا وتشريد الملايين، من أجل الإغراء المالي الضخم الذي تعتقد أنها ستقوم بدفعه من خزائننا العربية وتعتقد أننا سنقبل بهذه الصفقة الخاسرة بكل المقاييس؛ وهي التي جعلت صهر فرعون العصر جاريد كوشنر يستمتع بإذلال الشعب العربي بأكمله- بمسلميه ومسيحييه- عندما تحكم بحريته وسيادته واستقلاله وكرامته وعدالته ووجوده وعندما هندس صفقة القرن الظالمة دون الأخذ بعين الاعتبار لديننا وقيمنا وموروثاتنا الحضارية.
إن عزاءنا الوحيد بعد كل هذا التعدي من فرعون العصر وصفقته الظالمة والتي أؤكد أن الله العادل المنتقم العزيز الجبار لن يجعلها تمر دون حساب وعقاب لكل فراعنة العصر وقوارينها وكما جاء في نهاية سورة القصص عندما قال تعالى:
( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ )(88(
وعندها سيعلم الذين ظلموا أي منقلبٍ ينقلبون؛ وحسبنا الله ونعم الوكيل