صراحة نيوز – بقلم عوض ضيف الله الملاحمه
أود ان أتحدث عن قيادات الصف الأول في الدول عامة . حيث أرى انه يمكن تصنيفهم الى ثلاثة انواع رئيسية :- الصنف الأول : مدمر للأوطان . الصنف الثاني : بانٍ للأوطان . الصنف الثالث : يتسلم منصبه ويغادره كأنه ما كان .
الصنف المدمر للأوطان ، صنف كارثي ، غير انساني ، لا قيم ، ولا أخلاق ، ولا دين ، ولا ضوابط ، ولا رادع داخلي – وهو الضمير – ولا رادع خارجي ويتمثل في الرقابة ، والتشريعات ، وتفعليها ، لتترصده ، وتصده ، وتوقفه عند حده ، وتقول له بكل جرأة ورجولة وانتماء للوطن ، والتزاماً بالانظمة والقوانين . وإستناداً اليها وتطبيقاً لها ، والتزاماً بها ، تقول له : لا يجوز نهب المال العام .
مثل هذا النوع المدمر ، يكون كارثة على وطنه وشعبه . يصول ويجول ، ويستمريء الحرام ، ويحلو له ، ويزداد وزنه ( يتفذخ ) من الشحم واللحم الذي اكتنزه من مال حرام ، حيث تصبح ( خواصره ) كما المخدات . ويلهو ، ويلعب ، ( ويتفنطز ) ، ويمارس كل الموبقات ، ويقتني العشرات من السيارات ، والأهم ، أنه يكتنز المليارات .
أما الصنف الثاني ، صنف البناء ، والعطاء ، والحياء من الله والناس . يتقي الله في نفسه ، وفي الناس . وهذا النوع لا يكتفِ باستقامة نهجه ، وعفته ، بل ينتهج نهجاً تطويرياً لوطنه وشعبه ، فيقف سداً منيعاً ، وحارساً أميناً ، على المال العام ، مال شعبه وطنه . كما يعمل على الارتقاء بوطنه ، بتطويره ، وازدهاره ، وانعاش اقتصاده ، وتوفير حياة كريمة لشعبه .
الصنف الباني أفضل رموزه المرحوم السيد / مهاتير محمد ، او ( محاضر محمد ، بالعربية ) ، الذي أنعش وطور ماليزيا ، واوصلها الى ان تكون إحدى النمور الآسيوية السبعة بكل جدارة واستحقاق . بعد ان كانت مجرد بقعة من الارض تكسوها الغابات ، ومكب للنفايات . والناس يعيشون فيها كما انسان الغاب تخلّف ، وعوز ، وفقر ، واقتتال داخلي بين كل مكونات المجتمع الماليزي المتعددة ، حيث يصعب حصر منابتهم ، واصولهم ، ودياناتهم ، ولغاتهم ، وتعدد ولاءاتهم الخارجية .
سبق لي ان زرت ماليزيا قبل أكثر من ( ٢٠ ) عاماً ، فوجدتها جنة الله على الارض . إتحاد ماليزيا يتكون من عدة جماعات عرقية ، وعدة أديان . والنظام فيها — ملكي دستوري برلماني فيدرالي — والحكومة : فيدرالية منتخبة . ملك ماليزيا الملك الوحيد المنتخب في العالم . يتناوب على منصب الملك كل خمس سنوات ( ٩ ) حكام ، هم سلاطين ( ٩ ) ولايات .
بالرغم مما ذُكر اعلاه ، الا انه بجهود الاخيار ، الأغيار من قياداتها ، تمت لملمة الجراح ، وتحوَّل التشرذم الى توحد ، والخلافات الى تعايش . وكان من ابرز قادتها الذين نهضوا بها لتصبح إحدى النمور الآسيوية السبعة المرحوم / مهاتير محمد .
يعتبر مهاتير محمد من أعظم القادة السياسيين والإقتصاديين في آسيا . لذلك استطاع ان يغير وجه ماليزيا وينهض بها تنموياً ، فحوّل الشعب الماليزي من شعب يعيش في الغابات ، ويعتمد على الزراعة ، الى شعب صناعي ، وصلت فيه مساهمة قطاع الصناعة في الناتج المحلي الاجمالي الى ( ٩٠ ٪ ) . فحوّل ماليزيا من دولة فقيرة الى مصاف الدول الغنية .
كان مهاتير محمد يرقب الاقتتال العرقي بين ابناء وطنه بالم وحسرة ، لان الاقتتال كان يُسفر في كل مرة عن مئات وربما الوف القتلى خاصة بين الصينيين وسكان الملايو . بعد حصوله على مقعد نيابي ، اصبح وزيراً للتربية والتعليم ، ثم رئيساً للوزراء عام ١٩٨١ . وحكم بلاده لمدة ( ٢٢ ) عاماً ، بعد ان فاز في الانتخابات ( ٥ ) مرات متتالية ، لأنه نقل شعبه الى نهضة كبيرة في شتى المجالات . وشهدت ماليزيا في عهده نمواً اقتصادياً كبيراً ، فزادت ايرادات الدولة ، وتحسن دخل الفرد ، وظروف العمل . كما رحب بالاستثمار الخارجي ، وأصلح نظام الضرائب ، وخفض التعريفات التجارية ، وخصخص عدة مؤسسات تابعة للدولة . ولهذا حصلت ماليزيا إبان فترة حكمة على الاستقرار السياسي ، والنمو الإقتصادي ، فانتقلت من دولة فقيرة الى مصاف الدول المتقدمة .
بعد اعتزاله العمل السياسي ، أعلن عن خوضه الانتخابات من جديد ، ليفوز باغلبية المقاعد ، ويعلن عن تشكيل الوزارة وهو بعمر ( ٩٢ ) عاماً ، ليصبح أكبر الحكام عمراً في العالم . وعند عودته الى رئاسة الوزراء ، تمكن خلال ( ١٠ ) أيام من محاربة العديد من قضايا الفساد ، حيث فتح أكثر الملفات فساداً ، وهو الصندوق السيادي الماليزي ، الذي نُهب منه أكثر من ( ٤,٥ ) مليار دولار . وبعد يومين من تنصيبه ، وضع رئيس الوزراء السابق / نجيب عبدالرزاق ، وعائلته وبعض أقربائه على قائمة الممنوعين من السفر ، وبدأ التحقيق معهم بتهم الفساد ، والتربح وتلقي رِشى خارجية . كما تحرك سريعاً لتعقب واسترداد اموال منهوبة جرى تحويلها الى الخارج عبر عمليات غير مشروعة . كما أكد ان حكومته تسعى لاسترداد مليارات الدولارات دخلت في عمليات غسيل اموال في امريكا وسويسرا ودول اخرى . كما اوقف سكرتير عام الخزينة عن ممارسة مهامه ، ومنح المدعي العام إجازة في انتظار التحقيق في دوره في تبرئة رئيس الوزراء السابق في فضيحة الصندوق السيادي . وشدد مهاتير محمد على أهمية اجتثاث الفساد من جذورة ، واعلن عن تأسيس حركة ( مكافحة الفساد ) للتصدي لظواهر الفساد في كل مؤسسات الدولة . كما أكد على وجوب ان تتم ادارة شؤون الدولة بسيادة القانون ، وخضوع الجميع له ، بغض النظر عن الصفة والمنصب . وكان السبب الذي دعاه للعودة الى الحُكم إنهيار إحتياطي النقد الماليزي بمقدار ( ٤٠ ) مليار دولار ، ونتيجة لذلك انخفضت عملتهم الرينغيت ( ٣٣٪ ) .
هذا هو المرحوم / مهاتير محمد ، الذي انقذ بلاده من الفقر والجهل والتخلف والاقتتال الداخلي ، رغم تعقيدات المجتمع الماليزي العرقية والعقائدية ، وحولها من دولة فقيرة الى مصاف الدول المتقدمة . وعندما كادت سياسات كبار الفاسدين ان تؤدي بها الى الانهيار ، عاد الى تولي رئاسة الوزراء وهو بعمر ( ٩٢ ) عاماً ، وأمسك بداية بتلابيب الرئيس ومنعه من السفر ، ووضعه قيد الاقامة الجبرية هو وزوجته وعدداً من افراد اسرته وأتباعه من الفاسدين واعاد حوالي ( ٥٠ ) مليار دولار في غصون ( ١٠ ) أيام ، وبعد ان أعاد الامور الى نصابها تنازل عن السلطة لمن يأتمنه على بلاده . أيها الرمز / مهاتير محمد ، لو كنت فاسداً واكتنزت المليارات كما فعل غيرك ، لتركتها وانت تلاقي وجه ربك تعِساً ، شقياً ، فاسداً ، ملوثاً ، حقيراً ، وسيعيث الورثة بثروتك بذخاً وإسرافاُ وستذهب اموالك ، ولذهبت معها حُسن خاتمتك ، ولزُجِجّْت بنار السعير ، وتكون قد خسرت الدنيا والآخرة . لكن سلامة نهجك ونزاهتك أخذتك الى الجنة التي تليق بك وبأمثالك من الشرفاء ، والويل والثبور لكل فاسدٍ، وضيعٍ ، رخيص .