صراحة نيوز – بقلم موسى العدوان
في حياة كل إنسان محطات يحاول التوقف عندها، واستعادة ذكريات الماضي بحلوها ومرّها، استنباطا للدروس والعِبر وتذكرة لأجيال لاحقة. ففي محطتي هذا اليوم، أرغب أن أتوقف قليلا لأستعيد ذكرى حادثة عسكرية، ما زال بعض أفرادها على قيد الحياة، توثيقا للتاريخ أكثر منه لأي هدف آخر.
بعد الخامس من حزيران ،1967 وعودَتِنا بمعنويات متردّية إلى معسكراتنا في الزرقاء، غير مصدقين لما حدث معنا في تلك الحرب، تحولت مشاعرنا إلى مساندة العمل الفدائي، الذي كانت تمارسه المنظمات الفدائية الفلسطينية ضد العدو الإسرائيلي من خلال الأراضي الأردنية.
ومما شجع على هذا الفعل، حديث جلالة الملك حسين رحمه الله، عندما قال: ” أنا الفدائي الأول “. فتلقت الوحدات العسكرية المنفتحة على الحدود الغربية، الأمر من القيادة للقوات المسلحة الأردنية، بتسهيل عبور المجموعات الفدائية لنهر الأردن، لمهاجمة أهداف إسرائيلية على الأراضي المحتلة، وتغطية عملياتها بنيران المدفعية والنيران المباشرة عند الضرورة.
نشطت العمليات الفدائية في أواخر عام 1967 وفي عام 1968، وأصبحت تزعج القيادة الإسرائيلية، الأمر الذي دفعها لشن غارات جوية، على قواعد الفدائيين في منطقة الغور شرقي نهر الأردن، وعلى ومواقع الجيش الأردني في القرى والمدن وقناة الغور الشرقية، ابتداء من جنوب البحر الميت مرورا بالسلط وانتهاء بأم قيس. وفي أحدى الليالي قامت قوة إسرائيلية بمهاجمة قرية الشيخ محمد في الغور الشمالي، ودمرت العديد من المنازل وأوقعت إصابات بين عدد من المدنيين.
إزاء هذا الوضع، تم إلحاقي، عندما كنت برتبة نقيب مع سريتي الثانية من كتيبة الأمير عبد الله، بلواء اليرموك من فرقة المشاة الثانية، والتي تتولى مسؤولية الدفاع عن المنطقة الشمالية الغربية من المملكة. حُدّد مركز تجمع السرية في قرية دير أبو سعيد، الواقعة على أكتاف سلسلة الجبال الغربية، وأسندت لي مهمة نجدة القرى الأمامية في الغور، من نهر اليرموك شمالا وحتى سيل الزرقاء جنوبا بمسافة تقارب 60 كيلو مترا.
وصدر لي الأمر بأن تتنقل السرية على الجنزير بعد الضوء الأخير يوميا، على الطريق المنحدر من دير أبو سعيد إلى مثلث الزمالية في الغور، دون استخدام أضواء الآليات. وكان عليّ أن أمضي الليل هناك استعدادا لأي طلب نجدة، ثم أعود صباحا إلى مواقعي إذا لم تحدث عمليات معادية في المنطقة ليلا. واستمر ذلك الحال لما يقارب الشهر، حيث طُلب مني التمركز مع سريتي في منطقة مثلث الزمالية، بدلا من الحركة الليلية المعتادة.
وعلى ضوء هذه المهمة أجريت تقديرا للموقف، فتوصلت إلى الحقائق التالية :
1. مثلث الزمالية عبارة عن عقدة مواصلات تقع عند التقاء سلسلة الجبال الشرقية بسهول الغور، وهناك فسحة من الأرض طلب مني التمركز بها، رغم أنني توقعتها هدفا مسجلا لمدفعية العدو.
2. قناة الغور الشرقية التي تشق سهول الغور من الشمال إلى الجنوب، وتحد من حركة الآليات ويصعب اجتيازها إلا من خلال الجسور الصغيرة المقامة عليها.
3. منطقة المسؤولية التي عليّ أن أقوم بنجدتها يبلغ طولها حوالي 60 كيلومترا وعرضها من النهر وحتى سفوح الجبال الشرقية، يتراوح بين 5 – 10 كيلومترات.
4. إي هدف قد يهاجمه العدو، سوف لن يستغرقه الوصول إليه إلا وقتا قصيرا، نظرا لقصر المسافة بينه وبين النهر .
5. إذا حاولنا نجدة أي منطقة معتدى عليها، ستأخذ منا وقتا طويلا في الوصول إليها خاصة في الليل، حيث يكون العدو قد نفذ مهمته وانسحب إلى مواقعه قبل وصولنا إليه.
6. من المعروف عسكريا، أن أية قوة تهاجم هدفا معينا، فإنها تعمل على عزل منطقة الهدف بوضع كمائن قوية على طرق التقرب المحتملة، لمنع وصول النجدات إليه، وستكون الكمائن في مواقع قوية على الأرض بينما ستكون القوة المتحركة ليلا في موقع أضعف. وهذا الموقف هو ما سنواجهه في حالة طلب النجدة لأي هدف في المنطقة.
شرحت لقائد اللواء هذه الصعوبات، واقترحت أن نغادر منطقة مثلث الزمالية، ونوزع السرية في المنطقة بثلاثة أجزاء، تتمركز في مواقع قريبة من الأهداف المحتملة، بحيث تتمكن من القيام برد الفعل السريع على أي عمل معادٍ. ولكن قائد اللواء رفض الاقتراح. فاضطررت للتعايش مع تلك المهمة الخطيرة والمعروفة نتائجها السلبية مسبقا، وافترضت أننا سنكون شهداء المستقبل مع اتهامات مختلفة من المنظّرين.
وبناء على ذلك قررت إجراء استطلاع مفصل، من قبل قادة الفصائل وآمري وسائقي الناقلات، للتعرف على طبيعة الأرض والأهداف المحتملة، ومواقع الجسور المقامة على قناة الغور الشرقية. ثم اخترت نقاط الاستطلاع التي يجب التوقف عندها من الخارطة. وفي اليوم التالي حملت هذه المجموعة ( 30 فردا )، في إحدى شاحنات السرية من نوع فورد 3 طن، وأمرت السائق بالحركة خلف سيارتي إلى مواقع الاستطلاع، شارحا لهم المعلومات الضرورية في كل نقطة.
كانت إحدى نقاط الاستطلاع التي سنقف عندها، تقع على بعد 500 متر من التلة المجاورة لجسر الشيح حسين على الضفة الغربية للنهر، حيث تتمركز عليها نقطة مراقبة إسرائيلية محصنة. وعندما وصلنا إلى نقطة الاستطلاع مقابل تلك النقطة، شعرت بخطأي الكبير، إذ قد يستخدم العدو أسلحته المتوسطة من تلك النقطة ضد هذا الهدف المغري، ويوقع خسائر كبيرة بين الأفراد. فشرحت للجنود طبيعة المنطقة في بضع دقائق، وأمرت السائق بمغادرة الموقع على عجل.
الطريق القديمة إلى جسر الشيخ حسين كانت ضيقة ومعبدة قبل حرب 1948، وكانت تخترق أراضٍ زراعيةٍ محروثة ومروية حديثا بالمياه على الجانبين، ولا يمكن للشاحنة أن تعمل استدارة سريعة من خلالها. أخذ السائق يناور ويحاول الاستدارة بالشاحنة في عرض الطريق الضيقة على مرأى من العدو. ولكون جهاز التوجيه في الشاحنة لا يعمل ( بنظام الباور )، فقد استغرقت عملية الاستدارة حوالي 15 دقيقة خلتها 15 ساعة.
وفي هذا الموقف الحرج توقعت الأسوأ . . فوقفت بين الشاحنة ونقطة المراقبة المعادية قائلا في نفسي : إذا أطلق العدو النار على جنودي في الشاحنة . . فيجب أن أتلقى النار قبلهم متحملا مسؤولية خطأي، وبعيدا عن عبارة ” سئل فأجاب”. ولكن الشاحنة غادرت الموقع بسلام، وبقيت متسمّرا في مكاني، إلى أن ابتعدت الشاحنة عن نظري بضع كيلومترات، وحمدت الله على سلامتهم، ثم واصلت معهم عملية الاستطلاع.
في أواخر العام، نُقل قائد اللواء وعُيّن مكانه العميد الركن محمد موسى اليطاوي بعد أن كان ملحقا عسكريا في الباكستان، وهو ضابط معروف بكفاءته العسكرية واهتمامه الكبير بالعمل. وعندما زارني في موقع السرية بمنطقة الزمالية، لامني لوجودي في ذلك الموقع، باعتباره هدفا مسجلا لمدفعية العدو. فبينت له أن هذا الأمر قد فُرض علي رغم إرادتي، فاختار لنا موقعا آخر أكثر أمنا وانتقلنا إليه.
بقينا على هذا الحال حتى أوائل شهر شباط عام 1968، حيث جرى نقلي مدربا في مدرسة المشاة. وفي وقت لاحق، حدث تبادل قصف مدفعي بين القوات الأردنية والقوات الإسرائيلية في نفس المنطقة.
وعندما التقيت بالعميد محمد موسى اليطاوي – رحمه الله – أخبرني بأن العدو، لم يترك شبرا واحدا في موقع الزمالية الذي كنا متمركزين به، إلاّ وسقطت به قنبلة مدفعية من العيار الثقيل، فحمدت الله على نجاتي مع جنود سريتي الذين كنت أعتبرهم أبنائي.
وهذه واحدة من حوادث الموت العديدة التي واجهتها مع زملائي، خلال خدمتي العسكرية دفاعا عن الوطن، ليخرج علينا اليوم من يتقدم الصفوف ويبيعنا وطنية كاذبة . . !
التاريخ : 5 / 10 / 2020