صراحة نيوز – بقلم الدكتور ابراهيم بدران
لعل الأزمة الطاحنة التي تمر بها المنطقة، وحالة عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني فيها، وانعكاسات ذلك على الأردن، خلق حالة من القلق حول شمولية عملية الإصلاح وبطء التحرك الجاد المطلوب في مثل هذه الظروف الصعبة.
وفي نفس الوقت فإن عدم وضوح بوصلة العمل الحكومية في الجانب الاقتصادي والاجتماعي والمشاركة الديموقراطية على مدى سنوات طويلة، كل ذلك يدفع بالكثير من منظمات المجتمع المدني والأحزاب والخبراء والمفكرين إلى محاولة المشاركة في تقديم أفكار واقتراحات عمل للحكومة في مجالات مختلفة وحلول وبدائل سواء في الندوات أو المؤتمرات أو التقارير أو الإجتماعات المشتركة، أو من خلال الكتابة في الصحف أو الحديث في المحطات الإذاعية والتلفزيونية وغيرها.
ولا يستطيع أحد الا أن يعترف بأن جزءا جيداً من الأفكار المطروحة قابلة للتنفيذ، ويمكن أن تحسن الأداء وسبقتنا اليها دول كثيرة ، خاصة وأن ترتيبنا في فاعلية الأداء الحكومي حسب تقرير البنك الدولي هو75 وعلامتنا 0.14 من 2.5 أي على حافة المتوسط العالمي.
من جانب آخر فإن الموضوع الاقتصادي هو من أكثر المواضيع التي أثرت في المجتمع، وتركت المواطن فريسة للغلاء من جهة، والضرائب ومحدودية الدخل من جهة أخرى.
ولذا ركزت منظمات المجتمع المدني والأحزاب والمواطنون في مختلف مواقعهم كلا من زاويته التي تستحق الاحترام على الاقتصاد والمشاركة في الرأي للخروج من الأزمة. ويمكن القول إن هناك توافقاً وطنيا عاماً بأن المنهج الذي تناولت به الإدارات المتعاقبة الموضوع الإقتصادي وموضوع المشاركة والديموقراطية يسير في طريق غير منتج، بل ومسدود .
وهذا مقاس بمعدلات النمو المتواضعة جداً 2.3% وأرقام البطالة التي تعدت 18.5%، بينما دليل الديموقراطية لا يزال عند 3.88 من 10 . ذلك أن الإدارة حتى اليوم لا زالت تنظر إلى الإقتصاد فقط من باب تدبير الأموال من سنة إلى أخرى ومن موازنة إلى موازنة، فتزيد من الأعباء على الوطن والمواطن دون الاهتداء إلى طريق للخلاص، ولا تتناول الإقتصاد بالمفهوم العلمي العملي أي “الانتاج وتوليد الثروة وتوزيعها المجتمعي.”
ومما يعقد الأمور ويغرق المواطن بالضيق ،أن الإدارات نادرا ما تأخذ بأي اقتراح من المؤسسات الوطنية أو الخبرات المجتمعية،و في الوقت نفسه لا تبدع من نفسها أي بديل. وتستمر على النمط التقليدي:” اقتراض، ضرائب، مساعدات”، حتى وصل الدين العام إلى 27.6 مليار دينار أو 95% من الناتج المحلي الاجمالي.
وتراجعت المساعدات حتى تكاد تقتصر على الولايات المتحدة التي تريد أن تفرض شروطاً سياسية غير اعتيادية، وأن تضع كل شيء في مصلحة اسرائيل، الأمر الذي لا يستطيع الأردن أن يستمر فيه. ولذا دعا الملك إلى سياسة الاعتماد على الذات، إن العمود الفقري للاعتماد على الذات يتمثل في1- طاقات المجتمع وابداعاته ورأسماله البشري. 2- الاقتصاد الصناعي التكنولوجي الحديث3- حنكة ومرونة ومهنية الإدارة في الدولة.
والسؤال في عقل الأحزاب والمنظمات الوطنية والمواطن لماذا لا تأخذ الإدارات في هذه الظروف البالغة التعقيد بمبدأ المشاركة وقبول البدائل التي تتأتى عن نموذج أو تجربة أو فكرة؟
ما الذي يمنع الحكومة إذا كان هناك برنامج أو توجه أو فكرة قابلة للتنفيذ أن تتبناها ؟ ولماذا لا نستفيد من تجارب الدول الأخرى الناجحة إزاء المشكلات المشابهة التي تعترضنا؟.
ذلك أن عدم الإكتراث بما تقترحه أو تطالب به الأحزاب والمنظمات والخبراء يدفع البعض للإعتقاد أو الظن بأن هناك من يمنع الأردن من أن تحدث اقتصادها، وتجود من أدائها وتطور من زراعتها وسياحتها وصناعتها وتستثمر في إمكاناتها، وهذا ظن خطير يوسع الفجوة بين الإدارة وبين المواطن.
في الدول الأخرى المتقدمة سواء كانت صغيرة بحجم سنغافورة أو ضخمة بحجم الصين والهند والولايات المتحدة الأمريكية، هناك مستشارون من خبراء وعلماء يعملون في مركز صنع القرار لكي يقدموا الرأي العلمي في القضايا المختلفة، وهناك مجامع التفكير Think Tanks التي تقدم الدراسات والتحليلات للدولة في شتى القضايا، إضافة إلى ما تقوم به الجامعات، وهناك الأحزاب التي تعمل مسبقاً على متابعة التفاصيل وتجهد في إعداد السياسات والبرامج التي ستنتخب على أساسها، وبالتالي فإن العقل والتفكير الذي يوجه القرار هناك هو في الأغلب “عقل جمعي”، و”تفكير دولة” بمؤسساتها وخبرائها وعلمائها وأحزابها وسياسييها” ، وليس تفكير شخص أو مجموعة صغيرة من الأشخاص كما تمثل ذلك الإدارة “الفردانية” ،أو تفكير موظف مع الاحترام للجميع.
إن الإدارات لدينا رغم أنه ليس لديها كل ما لدى الدول الأخرى من عقول وخبرات ومؤسسات مشاركة، فإنها غالبا لا تقبل الاقتراحات والأفكار التي يطرحها المواطنون لتأخذ السليم الصحيح منها وتترك غير المفيد ربما للأسباب التالية:
أولاً : تصغير شان الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني في عقل الموظف الحكومي وبالتالي عدم الاكتراث بما يصدر عنها.
ثانيا:عدم أخذ المشاركة مأخذا جاداً وخاصة في صنع القرار أو رسم السياسات على الرغم من وجود قوانين ودعوات متواصلة من الملك للتشارك الحقيقي بين القطاع العام والقطاع الخاص أي بين الحكومة والمؤسسات التي تمثل المواطنين بمنظماتهم وأعمالهم.
ثالثا: افتراض المسؤول ومعه الجهاز الوظيفي أنه أكثر علماً ومعرفة وحكمة وخبرة من الآخرين وخاصة المواطنين وأنه يرى ما لا يرون.
رابعا: إن ثقافة التبرير تسيطر إلى حد كبير على تفكير الموظفين، فهم جاهزون لإعطاء التبريرات والأسباب التي تؤكد أنهم على الطريق الصحيح وأنهم آخذون كل شيء بعين الاعتبار.
خامسا: عدم الاستعداد للاعتراف بالخطأ أو بوجود بدائل أفضل، ولذلك كثيراً ما يواجه المسؤول الأعلى والمواطن العادي اجابات غير دقيقة أو هلامية لا تعني شيئاً من قبيل “ نحن ندرس هذا الموضوع “ أو هناك لجنة متخصصة أو هذا على خطتنا للسنة القادمة أو هذا يوقعنا في مساءلة قانونية أو شبهة فساد أو غير ذلك من عشرات العبارات التي لا توصل إلى أي مكان.
سادسا: عزوف الجامعات عن الانخراط في دراسة وبحث القضايا العامة التي تشكل عقبة أمام النمو الاقتصادي أو تطوير الامكانات الوطنية أو حتى البدائل الاستراتيجية في القطاعات المختلفة، والاكتفاء بالأبحاث النظرية المعدة للنشر، و في الوقت نفسه عدم اكتراث الإدارة باستشارة الجامعات للوصول إلى الرأي الأفضل.
وهكذا يستمر التراجع المادي والمعنوي وانخفاض معدلات النمو الاقتصادي، وارتفاع أرقام الفقر والبطالة، واشتداد الأزمة المالية واهتزاز ثقة المواطن ، ولا تصل الإدارات إلى نقطة تقف فيها وتقول: نعم دعونا نستمع لما يقوله “ المواطنون “ ودعونا نستفد من خبرائنا ، دعونا نكلف الجامعات ومراكز الأبحاث بالدراسات والمساهمة في تطوير القطاعات، دعونا نتعلم من تجارب الدول الأخرى بالزراعة أو المياه،أو العمالة أو أي موضوع آخر، دعونا نتجاوب مع توجيهات الملك بالدعوة للمشاركة الحقيقية ونصنع مستقبلنا على هذا الأساس، دعونا ننتهي من الشعار غير المعلن الذي نرفعه في وجه الجميع “ قولوا ما تريدون ونحن نفعل ما نــريـد”، دعونا نخرج من عقدة الكبرياء غير المثمرة وننخرط فعلا في التغيير والافادة من رأي الناس وتحقيق المشاركة .
في اعتقادنا أن هذا ممكن إذا “ ترسخ في ذهن كل مواطن وكل مؤسسة وكل مسؤول وكل إدارة أن “الأزمات لا تواجه بالإنفراد والفردانية بل بالمشاركة”، وأن “الاستجابة للأفكار التي يقدمها المواطنون ليس دليل جهل أو غفلة بل دليل ادراك وثقة ووطنية وديموقراطية” ،وإن تحفيز طلب الإستشارة العلمية والمهنية والتشارك ليس ضعفاً بل هو قوة ترتكز اليها الحكومات في الدول الناجحة في الإنجاز “، وهذا يرتب على الحكومة القيام ببرنامج تحفيز للإدارات والمؤسسات في الإطار التالي :
أولاً : توجيه الموظفين وخاصة في المحافظات لأخد ما يقدمه الآخرون من بدائل أو أفكار مأخذ الجد والمسؤولية، حتى لو كانت حصيلة ذلك ليست حلولاً شاملة وانما حلول جزئية تراكمية.
ثانياً: توجيه الثقافة الوطنية على كل مستوى وأهمها جهاز الدولة للبحث عن حلول واجابات حقيقية يمكن البناء عليها وليس الاستغراق في الأعذار والتبريرات .
ثالثاً : إعادة الاعتبار الوطني والقانوني للأحزاب ومنظمات المجتمع المدني وللقطاع الخاص كشركاء حقيقيين وليس مجرد شراكة شكلية عابرة.
رابعاً : التزام الحكومة أمام المواطنين والبرلمان بالتراجع عن القرار غير المناسب إذا توفر البديل الأفضل .
خامساً :النزول إلى الميدان ليس لغايات اعلامية، وانما للتواصل المستمر والحقيقي مع الشركاء من مختلف القطاعات.
وأخيرا فإن المواطنين على ثقة بأن بلدهم قادر على مواجهة الأزمات وإجتيازها إلى بر الأمان بالشراكة الحقيقية وتفعيل طاقات المجتمع بكامله.