صراحة نيوز – بقلم الدكتور ابراهيم بدران
المحاضرة التي القاها الدكتور «فيليب يو» عن نهضة سنغافورة تستحق الاهتمام، ليس فقط من اجل التفاصيل التي تضمنتها ، والافكار المتميزة التي أوردها، وإنما لتعبيره عن وضوح الرؤيا وقوة العزيمة التي سيطرت على الإدارة السنغافورية منذ استقلالها عام 1965 وحتى اليوم. وقبل عدة سنوات استضاف الأردن مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا الأسبق، وتحدث في حينها عن النهضة الماليزية والطريق الذي سلكته ماليزيا وقادها إلى النجاح. والأسئلة التي يجب أن تثار باستمرار: هل تستطيع دول أخرى أن تنهض لتصبح مثل سنغافورة أو ايرلندا أو البرتغال، ناهيك عن اليابان وكوريا وغيرها؟ لماذا لم تنهض أي دولة عربية ،ونحن منها، ولم تستطع أي منها أن تحقق ما حققته سنغافورة أو غيرها من الدول الناهضة من الإقتصاد القوي والإزدهار المتميز والتقدم المطرد؟. هل يعود السبب إلى عدم وجود خطة؟ أو يعود إلى نقص في الافكار؟ أم يعود إلى صعوبة تطوير نموذج خاص بنا كأي بلد يرغب بذلك اذا لم يتوفر فلا يمكن لأي بلد أن ينجح إلا ذلك صاحب النموذج؟.
بالتأكيد ليست هذه هي الأسباب.. هناك سببان رئيسان: ألأول أن الإدارات تستسهل استمرار النمط الذي نحن فيه إنطلاقا من العقلية التبسيطية، فيذهب الوقت والجهد في البحث عن الأعذار والمبررات الداخلية والخارجية لنصل إلى نتيجة خادعة وهي أنه لم يكن بالإمكان أحسن مما كان،وهذا يبعدنا عن ادراك فجوة الزمن والإحساس بصدمة عدم الإنجاز واستثمار الإمكانات واستشراف المستقبل. والثاني غياب القرار الوطني الحاسم بالتغيير، والوصول إلى نموذج اقتصادي جديد، يحقق الديمومة والاعتماد على الذات في إطار من التوافق والمشاركة الفاعلة من القوى السياسية والاقتصادية والعلمية»، وتقوده المؤسسات الرسمية بكل الإمكانات والخبرات ويتحمل تبعاته كافة المسؤولين.
وتبين تجربة دول شرق آسيا أن النهوض لا يحتاج إلى ضجيج، ولا برامج دعائية معقدة، وخطط نظرية هائلة، انها تحتاج إلى القرار والإرادة والرؤية والتركيز على موضوع معين كمنصة أساسية للانطلاق ،كأن نقول : مواجهة البطالة أو تطوير الصناعة أو تصنيع وتحديث الزراعة …الخ ، هذه المنصة ،حين تعمل عليها مؤسسات الدولة، من شأنها أن تشغل محركات ومحاور أخرى اجتماعية واقتصادية وعلمية وتعليمية عديدة تنتهي بالعمل على الجبهات المختلفة.
في حالة سنغافورة كانت منصة الإنطلاق هي: الارتقاء بالاقتصاد الوطني المعتمد على الصناعات منخفضة الكلفة، وفي ماليزيا كانت المنصة مواجهة البطالة؛ ما استدعى دفع الاستثمار الوطني والاجنبي إلى المقدمة حتى يتم خلق فرص عمل جديدة؛ ما تطلب إعادة النظر بالتدريب والتأهيل والتعليم الأساسي ثم الجامعي بالتعاون مع الصناعات الجديدة، ولكي ينجح المستثمرون، كان لابد من إعادة تأهيل موظفي الدولة ليصبحوا مسؤولين عن النجاح، وشركاء في مكاسبه، وبالتالي يعملون في خدمة المستثمر، وقد وصلت سنغافورة ليكون ترتيبها رقم 2 في العالم بعد سويسرا في جاذبية الإستثمار، وهكذا راح قطار التغيير يحرك كل مفاصل الدولة هناك. كذلك كان الحال في كوريا وايرلندا وفيتنام وغيرها، بمعنى آخر، أن طريق الدول إلى النهوض المعاصر اصبح معروفا بل ولا بديل عنه وهو: («تصنيع الاقتصاد والانتقال من الاقتصاد المعتمد على التجارة والخدمات البسيطة إلى اقتصاد صناعي متقدم، تتحول فيه الخدمات إلى أخرى تكنولوجية متقدمة عالية القيمة المضافة، وفي الوقت نفسه الانتقال من البحث عن الثروات الطبيعية أو الأموال الجاهزة إلى الاستثمار في رأس المال البشري)، وبالتالي «يتغير المجتمع جذريا بسلوكه وثقافته والتزاماته ومواقفه ومصالحه واصطفافاته ومؤسساته، وتتغير الإدارة الحكومية، وبالتالي يتقدم المجتمع وتنهض الدولة «، وهذا ما أكده فيليب يو في محاضرته حين قال: «ليس هناك حل سحري للحصول على نتائج متميزة وسريعة.. وان سنغافورة نجحت في جذب استثمارات مهمة نقلت اقتصادها من «الاتكال على غيرها في التصنيع وتقديم الخدمات» إلى اقتصاد قائم على المعرفة والابتكار،» وقد اطلقت سنغافورة على برنامجها في الثمانينيات اسم «الثورة الصناعية الثانية» للتأكيد على ارتكاز النهضة على التصنيع، وهنا اصبح الاهتمام بالتعليم ضرورة اقتصادية واجتماعية، والاهتمام بالابتكار وبالشباب وبالابداع ضرورة سياسية اقتصادية لديمومة النهوض والتنافس، وأصبحت الديموقراطية والمشاركة والمواطنة والتسامح ضرورة ومصلحة للجميع، مما دفع إلى تطوير التعليم وتشجيع الإبداع، والإفادة من الخبراء وغير ذلك الكثير.
أما المنطقة العربية التي أدمنت القروض والمساعدات والاعتماد على الغير، ونحن منها، فهي غالباً ما تحلم بالحلول السريعة، وتتحدث عن النهوض وعن الاعتماد على الذات، دون أن تدخل في صلب العملية التحولية بكل ما فيها من مشقة ومتاعب وما تتطلبه من جهد واخلاص وأمانة؛ فالاعتماد على الذات، الذي طرحه جلالة الملك، من سينفذ أساسياته إذا لم تنفذها الحكومة ؟ وماذا يمكن أن يكون اذا لم يقم على تطوير الاقتصاد باتجاه التصنيع والانتقال إلى الاقتصاد» الصناعي المعرفي؟ وكيف يمكن النهوض بالموارد البشرية والاستفادة من رأس المال البشري اذا لم تكن هناك الصناعات التي تحتاج إلى العلم والتكنولوجيا والإبداع والى الكوادر المتعلمة والمدربة؟ واين سيذهب عشرات الآلاف من الخريجين اذا لم تكن هناك الاستثمارات في مشاريع انتاجية جديدة؟ لم يتحدث «فيليب يو» عن الاستثمار في العقار، أو في سوق الاوراق المالية، أو بيع ما هو موجود من شركات ومؤسسات، أو نقل الثروة من يد إلى يد، أو غير ذلك الكثير مما نحن فيه، بل تحدث بالضبط عن الاقتصاد المنتج، وتحدث عن الشراكة الفاعلة والصادقة بين الحكومة والقطاعات الأخرى، وتحدث عن الجهاز الوظيفي الذي يواجهه المستثمر صباح مساء ، هذا في حين أن القطاعات المختلفة لدينا تصرخ ليلا ونهارا من غياب الشراكة الحقيقية وإصرار الإدارات الرسمية على الإنفراد بالقرار، هذا في حين تعاني القطاعات المختلفة من ارتفاع كلفة الإنتاج بسبب الرسوم والضرائب على مدخلات الإنتاج، وهي قصة تعود إلى اكثر من 30 سنة، بل وتغلق الاف الشركات والمصانع ابوابها، وتبحث عن اماكن في دول أخرى.
أن الاهتمام بالتعليم وبالشباب ،الذي يؤكد عليه الجميع وفي مقدمتهم الملك، بعيدا عن التحول نحو الاقتصاد الصناعي كما حدث في سنغافورة، سيواجه طريقا مسدودا، ذلك انه لا يوجد فضاء أو مجال قادر على استيعاب امكانات التعليم الجيد والشباب والطموح المبتكر، إلا الاقتصاد الصناعي؛ لأن الاقتصاد التجاري لا يولد فرص عمل كافية.
«إن التحول والاعتماد على الذات تبدأه ادارة الدولة بمشاركة القطاع الخاص والاهلي وليس القطاع الخاص هو الذي ينطلق بالثورة الصناعية، فذلك فقط ما يغير تفكير الدولة لتتجه نحو المشاركة والديمقراطية وإعطاء الدور الحقيقي للاحزاب حتى تكون لها معينا في تجميع وتحفيز القوى الوطنية لدعم عملية النهوض بكافة أبعادها ومتاعبها.
هل نستطيع ؟ نعم، وهل لدينا الإمكانات والمؤهلات نعم، هل تمنعنا حالة المنطقة من المبادرة؟ كلا، ولكن لا بد من القرار الحكومي بذلك، فمتى يتحقق الأمل؟ تلك هي المسألة.