يستدعي المسؤولون الإعلام عند كل أزمة، الاستدعاء هنا ينطوي أحيانا على محمل “طلب المساعدة”، وأحيانا أخرى على محمل “القيام بالواجب”، لكن الأهم من ذلك أن الإعلام كما يصبح حلا ومخرجا ومركبا للدفاع أو الرد أو لتبييض الصورة، يتحول، بعيون المسؤولين ذاتهم، إلى مشكلة، فهو المسؤول عن إخفاق الحكومات، وعن انتشار الاشاعات، وعن إخفاء الإنجازات الوطنية، وعن استغراق المجتمع بالسوداوية أيضا. يريد المسؤولون إعلاما قويا يدافع عن الدولة، ويكون ذراعا لها، لا بأس، هذا مطلب مفهوم وضروري، لكن الحكومات، بالغالب، تأكل الإعلام، وتحاول ما استطاعت أن تضعه في “بيت الطاعة، وأن يكون لسانها والناطق باسمها. لا بأس أيضا، يمكن أن نبتلع ذلك على سبيل الجدل، لكن الحكومات لا تسمح للإعلاميين أن يتنفسوا كما يليق بأصحاب المهنة التقاط حرياتهم، ولا تتحرك لإنقاذ مؤسساتهم الصحفية من كوارثها المالية التي تسببت بها، أو بجزء منها، فهم إعلام دولة وقت الطلب والحاجة، لكنهم حين يخرجون للاحتجاج على عدم دفع رواتبهم، أو حين يطالبون بإعفاءات ضريبية، تساعدهم على تجاوز محنتهم، يقال لهم: أنتم إعلام خاص وشركات وأموال محسوبة لا دخل للخزينة بها، هل يستقيم هذا المنطق؟ المجتمع، أيضا، يتعامل مع الإعلام على المسطرة ذاتها، فهو يريد إعلاما وطنيا صادقا وجريئا، ينقل همومه، ويتناول قضاياه بمهنية، لكنه غير مستعد للوقوف لجانب إعلامي يتعرض للعقوبة أو المحاصرة، قليل من الناس من يشتري الصحف أو يضع إعلانا فيها، غالبا ما يطلق على الإعلاميين بالتعميم “تهم” الانحياز للرسمي، وأكثر من ذلك. المجتمع يريد إعلاما يمثله لكن دون أن يدفع أي ثمن، ودون أن تتحمل النخب والنقابات والأحزاب التي تزعم أنها تمثله أي مسؤولية، حتى لو كانت أخلاقية، لا يمكن للإعلام أن ينهض وينتزع استقلاليته بمعزل عن دعم المجتمع ورعايته، والعكس صحيح أيضا. وظيفة الإعلام لا تقتصر على نقل الأخبار بموضوعية وأمانة، كما لا يجوز أن تختزل بتزيين المشهد العام، والترويج لسياسات تفتقد للشرعية الشعبية، الاعلام مرآة المجتمع التي تعكس ما يفكر به، وما يحتاجه ويعاني منه، وحين يصبح في بيت الطاعة لأي جهة، فإنه لا يفقد مصداقيته فقط، وإنما يعجز حينها عن تبني رسالة الدولة، وقد يسيء اليها، ويصبح عبئا على الرسائل التي تسعى لإيصالها للناس وإقناعهم بها. الإعلام ليس عصا الحكومات أو جزرتها، وإنما ضمير الدولة والمجتمع، وأداؤه يقاس على مسطرة المهنية الحقة لا المسطرة السياسية ولا الإعلانية، كما أن دوره يتجاوز الحشد والتعبوية للتنوير والبحث عن الحقيقة وخدمتها، وتمثيل الرأي العام، وصناعته أيضا. لا يمكن للإعلام أن يتحرك بالاتجاه الصحيح، إلا إذا توفرت له بيئة سياسية واجتماعية مفتوحة على فضاءات الحرية، وحق الحصول على المعلومة، ولهذا فإن إصلاح الإعلام، بمعزل عن إصلاح السياسة والثقافة، يبدو في غاية الصعوبة، كما أن تحميل الإعلاميين، لوحدهم، مسؤولية الخلل والتقصير، دون النظر للسياقات والظروف التي أفرزتهم أو يعانون منها، فيه ظلم كبير للإعلام والإعلاميين معا. صحيح، يحتاج الإعلام لممارسة أقصى درجات النقد الذاتي لتجربته وأدائه، وربما لعمليات جراحية صعبة ومؤلمة، سواء على صعيد ما يقدمه من مضامين، أو ما يستخدمه من أدوات، أو على صعيد الدفاع عن استقلاليته وما جرى عليها من تدخلات بفعل العاملين فيه، أو على الرغم منهم، لكن الصحيح أن هذا النقد الذاتي لا يكتمل إلا بإصلاح الإدارة الإعلامية، من خلال رفع اليد عن ” التعيينات” داخل المؤسسات أو خارجها، ثم إجابة الدولة، بكافة مؤسساتها، عن سؤال المليون، وهو: هل تريد للإعلام أن يكون إعلام دولة حقيقيا، أم إعلام فزعات، يتم استدعاؤه “بسيف المعز أو بذهبه” دون أن يقنع أحدا أو يترك أثرا؟