صراحة نيوز -بقلم سهير جرادات
قبل حوالي عشرين عاما ، اتصل الديوان الملكي العامر بوالدي،لإبلاغه التوجه إليهم لتوثيق ” مرحلة السبعين، أو ما تعرف بأحداث أيلول ” ، لأهميتها وحساسيتها في تاريخ الأردن ، وكونها غير موثقة بطريقة رسمية ، من خلال – البقية الباقية – من رجالات تلك المرحلة ، ومن بينهم والدي اللواء الركن المتقاعد فهد جرادات ، كونه أحدرجالات تلك الفترة ، وشاهدا على العصر، إذ كان وزيرا في الحكومة العسكرية – الأولى والأخيرة في تاريخ الحكومات الأردنية – التي شكلت في ظروف شهدت فيها الساحة الأردنية صراعات وخلافات مع الفصائل الفلسطينية التي كانت وقتها تدعمها الأحزاب، والقوى القومية واليسارية ، والتيار الناصري ، وحزب البعث السوري ، وعُرفت بحكومة “التسعة أيام” ، وهي ثاني أقصر حكومة أردنية من حيث العمر ، إضافة إلى أن والدي هو أول قائد “للجيش الشعبي” بعدأحداث أيلول، الذي شُكل لتسليح المواطنين، ورفع قدراتهم على المقاومة في حال تعرض بلدنا لأي عدوان.
لتأتي المفاجأة من رد والدي – رحمه الله – برفض الحديث والادلاء بشهادته ، وجاءت اجابته حرفيا : ” لماذا الآن ؟! هذا مطلب قديم ، بأن يتم التوثيق وغالبية المعنيين أصحاب العلاقة على قيد الحياة ، حتى لا يكون هناك مجال للتفرد بالمعلومة دون تصحيحها من الأطراف المعنية من خلال تأكيدها أو نفيها لغيابهم بالموت ، حتى يتم التوافق على المعلومات وتصحيحها من قبل جميع الأطراف ، وحتى لا يكون هناك مجال للتحريف والتأويل …لماذا بعد رحيل الملك الحسين؟!!!، والعدد الأكبر من رجالات تلك المرحلة ؟! ، ومن بقي على قيدالحياة ، هل جميعهم تسعفهم ذاكرتهم ؟! وهل ما سنقوله من معلومات دقيقة ومهمة ، ستكتب حرفيا ودون تدخل ؟!” .
تذكرت تفاصيل هذه الحادثة ، وأنا أشاهد المقابلة التي أجريت مع الفريق الركن المتقاعد نذيررشيد رئيس جهاز المخابرات الأردنية ووزيرالداخلية الأسبق ، وهي المقابلة ( الأكثر جدلا ) من حيث المعلومات التي أوردها عن شهيد الأمة الزعيم الرمز وصفي التل ،الذي تم اغتيال مشروعه القومي العربي في الدفاع عن فلسطين قبل أن يتم اغتيال جسده وتصفيته عام 1971 في مصر.
من باب احترام العلاقة التي كانت تربط والدي بنذير باشا ، ومن باب احترام السن ، أوجه أسئلة تراود الكثيرين ، حول توقيت نشرالمقابلة ؟! وبعد يومين من الاعلان عن “صفقة القرن” ، والتي لم تحمل اسم معدها ، ولم تضم صورة من أجرى المقابلة ، إلا أن الصوت يكشف المتحدث …وهل أنت “يا باشا ” راض عن العنوان الجدلي الذي اختير للمقابلة : ” الرشيد يتحدث عن أجندة خاصة لوصفي التل” ؟!!.
للأمانة ، وبعد مشاهدة المقابلة المصورة ، وإعادتها عدة مرات ، لم يذكر الباشا ” أجندة ” ولم يلفظها إنما قال ” برنامج خاص “، والسؤال الأهم ، هل هذا خطأ صحفي مهني من الصحفي الذي أجرى المقابلة ؟! أم هل هذا ما هو مطلوب في هذه المرحلة الدقيقة التي تتعرض لها القدس ، ودور الأردن ؟!؟! أم أن هذا هو المقصود بعينه من المقابلة؟!
دعني أصحح لك بعض المعلومات ، وصفي كان صاحب مشروع قومي وطني، وليس برنامجا ولا أجندة ، وتَمثل مشروع وصفي في اعتبار الاردن منطلق نحو استرجاع فلسطين وتحريرها ، من خلال إقامة دولة عربية متحدة تضم الأردن وسوريا والعراق، لضمان حصرالعدو ودحره خارج الوطن العربي ، وتطوير أربع جبهات رئيسة ، ثلاث منها دفاعية، ورابعة جبهة للهجوم والتصدي، والجبهات الدفاعية هي : الجبهة الشمالية لسوريا، والجبهة الشرقية للأردن، والجبهة الجنوبية لمصر، أما الجبهة الرابعة فهي الجبهة الوسطى، وتتشكل بصورة رئيسة من الفلسطينيين، وتعمل داخل الأراضي العربية المحتلة لاستنزاف العدو، وتتحرك من الداخل وتُهاجم من جميع الجهات، ويقوم الجيش العربي الاردني وبالاتفاق مع قادة المقاومة في الأردن على تأهيل كوادر الجبهة الوسطى .
لقد خانك التعبير يا باشا؛ عندما اسهبت في الحديث عن ظروف اصرار سفر ومشاركة وصفي في اجتماع مجلس الدفاع العربي المشترك ، حيث قلت : ” أصر على الروحه ، وأصر على أن يلقي بيانا لم يطلع عليه أحد ( الملك ، رئيس الحكومة لا أحد نهائيا)، وكان يدعوفيه إلى أن أرض الاردن، أرض الرباط والحشد، وعلينا نحن أن ندعم،وأن نودي هناك ونتحمل رد الفعل الاسرائيلي ، يا أخي نحن عندنا سياسة ..عنا دولة ..بنحبش ينفرض علينا سياسة ..لمين ما كان يكون ” ، والصحيح أن وصفي التل كان ذاته رئيسا للحكومة !!!.
وعند سردك للحظات الأخيرة من حياة الشهيد الرمز ، ذكرت أن آخركلمة قالها الشهيد :” سووها السفلة ” ، وتابعت حديثك :” ما أنت عارف انهم سفله ، ليش تروح ” ، وأقول : رغم علمه المسبق بأنهم سفلة، إلا أن هناك تيارا اسمه الإيمان بالقضية يا باشا !
وعند سؤالك في المقابلة ، هل كان مخلصا ؟! في الإشارة إلى وصفي.. بادرت بالرد بسؤال : مخلص لمين !؟
هل تشكك بإخلاصة للوطن والملك والقضية ، وهذا ثالوث إخلاص وصفي ، الذي رفض عرضا من قيادات الجيش بالانقلاب على النظام، وطلب من الحرس اعتقال كل الموجودين؛ لولائه للنظام .
لماذا هذا الغمز بعد قرابة الخمسة عقود على استشهاد وصفي ، هل هذا هو المطلوب ؟! ماذا يُراد من وراء هذه المقابلة ؟!
إذا كان يُراد منها تقليل شأن وصفي ، أبشركم بأنها لن تجدي ، بالعكس هذا الحديث عن وصفي لا يسيء له ، ولن يؤثر في هذا الشهم ، الذي غُدر من الخلف ؛ لعدم قدرة ألد أعدائه على مواجهته، وليس لديهم القدرة على وضع “عينهم في عينيه “، انما فتحت المقابلة باب التساؤلات : لماذا تصدر هذه المعلومات الآن من شخص بحجمك ووزنك ، وبعد كل هذه السنين ؟! ، ولماذا كتمت هذه المعلومات ف يصدرك وأبقيتها حبيسة ثمانية واربعين عاما ؟! ولماذا لم تشر اليها في كتابك ” حساب السرايا وحساب القرايا ” ، ولا في مقابلتك ” شاهد على العصر ” لقناة الجزيرة .
و يبقى هنا سؤال يطرح نفسه بشدة واستغراب ودهشة: هل هناك هدف من نشر هذه المعلومات بغض النظر عن دقتها أم لا ؟! وهل التوقيت مقصود ؟!!
وفي قراءة سريعة في السيرة الذاتية لنذير باشا ، وبحسب مذكرات الملك الحسين في كتابة ” مهنتي كملك ” فهو المتهم بمحاولة الانقلاب ضد الملك حسين ، كونه أحد مؤسسي تنظيم الضباط الأحرار ، وحُكِم غيابيا بالسجن خمسة عشر عاما ، وبقي فارالسنوات في سوريا ولبنان حتى صدر العفو الملكي العام عن جميع المعارضين ، ليعود من المنفى للخدمة في جهاز المخابرات الأردنية ، وتحديدا مسؤولا عن فرع إسرائيل ، ويُرفع بعد ستة أشهر ، وهكذا حتى أصبح مديرا لهذا الجهاز الحساس جدا !!!! ، وبعدها سفيراللاردن في المغرب ، وعضوا في مجلس الملك ووزيرا للداخلية ، ليسجل بذلك سابقة في تنقله بين الاتهام بالخيانة والمنفى والمناصب الحساسة العليا في الدولة .
هذه المقابلة – غير الناجحة بكل المقاييس- أعادت للواجهة سؤالا مازال مطروحا على مدار حوالي خمسين عاما : من قتل وصفي ؟!،حيث أشير في المقابلة إلى أن هناك عدم رضا ” داخلي ” ، بعد تعاظم دور وصفي التل في الأردن ، وحتى قبل طرح مشروعه ، وهذا يشيرإلى دلالات خطيرة لا تحمد عقباها .
من الواضح أن وصفي أصبح يزعجهم – حتى بعد موته – ، والامر زاد عن حده ، بعد أن تحول يوم اغتياله ويوم ميلاده إلى يوم كرنفالي احتفالي يحييها الأردنيون كل عام ، من مختلف الفئات، وجلهم ممن لم يعاشروه ، ولم يشاهدوه ، هذه الفئات سمعت فقط عن وصفي وإخلاصه وقوميته ووطنيته وعروبته ، ويظهر أن هذا الأمر أزعجهم ، وبعد أن شهدت احتفالات هذا العام اهتماما على أعلى المستويات ، الأمر الذي جعلنا نوقن بأن هناك نية للقضاء على هذه الاسطورة ، ولم نتخيل بهذه السرعة !!!
عذرا “يا باشا “، خدعوك.. عندما أقنعوك بإجراء هذه المقابلة المثيرة للجدل ، وأخطأت بالموافقة على اجرائها ، مؤكدا أن “حساب السرايا غير راكب على حساب القرايا “.