أو كبيراً …!

14 أبريل 2017
أو كبيراً …!

كثيرون لا يعيرون التوثيق أي إهتمام بل ويعتبرونه تكلف زائد، بينما نجد في أول أساسيات كثير ممن قطع أشواطاً في التقدم والرقي والنجاح والتميز “التوثيق” أو ما يعرف باسمDocumentation ، والذي يعتبر من أساسيات التعامل المحترف سواء فيما يختص بالحياة العملية أو حتى الشخصية، فتجد الانسان المنظم قد وثق أعماله وكل خطواته في مكان يعود إليه في أي وقت أراد بكل يسر وسهولة، كما تجده لا يخطو خطوة إلا وقد إحتاط بتوثيقها والاحتفاظ بها بشكل منظم يسمح بالعودة إليها متى شاء، وقد عرف هؤلاء أهمية التوثيق كما وصفها بعض العلماء بأنه الركيزة الحقيقة التي يعتمد عليها في البحث عن الحقيقة، وهو ذاكرة الأمة المضيئة اليقظة التي لا يدركها النسيان، كما أنه حلقة وصل متينة تصل حاضر الأمة بماضيها وشاهد حي على جميع أحداثها بكل ما فيها من تطورات وأحداث، وهو المستند المحكم الذي يؤخذ به لتوفير المعلومات المناسبة متى كانت هناك حاجة إليها، ولعلنا لو نظرنا في مقالة الكاتب والمؤلف الاماراتي سلطان إسماعيل الزعابي في العام 2013م عن أهمية التوثيق في حياتنا لوجدنا فيها من الفائدة بما يتفق مع موضوع سطورنا هنا، وهو الذي يشير لقصة المخترع الأمريكي توماس أديسون مخترع المصباح الكهربائي كواحدة من أهم الأمثلة على أهمية التوثيق، وكيف أنه لم يخترع المصباح الكهربائي كما يظن الكثيرين، وإنما عمل على تطويره من خلال تجارب من سبقوه لأكثر من 75 عاماً.

وقد كان ذلك بعد أن فشل تسعاً وتسعين مرة نجح بعدها في التوصل إلى طريقة إضاءة المصباح الكهربائي بعد أن أفرغ الزجاجة من الهواء ثم أقفلها تماماً في العام 1879م، وهو الأمر الذي لم يكن ليصل إليه دون توثيق محاولاته الفاشلة والاستفادة من تجاربه وتجارب غيره السابقة “الموثقة”، ويذكر الكاتب في مقالته واحدة من أجمل النصائح للشباب من أحد ذوي الخبرة الذين عرفهم والذي كان يقول له: (لا تغفل عن تدوين أية فكرة تمر بذهنك، فأكثر الأفكار تأتيك عفوية كالومضة، لا تمكث لديك لفترة بل تمر عليك سريعاً لتختفي بعد برهة، فإن أخفقت في تدوينها في حينها سيستعصي عليك تذكرها لاحقاً في خضم هذه الحياة اللاهثة)، كما يقول الكاتب “فيما نتفق معه فيه” أنه يرى المعرفة قوة مجردة لا يمكن أن تصبح قوة حقيقية إلا من خلال توثيقها أولاً، ومن ثم تسخيرها ودراسة كيفية الاستفادة منها لتحقيق المآرب والأهداف، وصحيح أن المعرفة الضمنية لا تندثر لأنها محفوظة في العقل الباطن ولا تضيع بين غياهب ملايين المعلومات المتراكمة في ذلك المستودع الفكري، إلا أنها ليست سهلة الاسترجاع دائماً خصوصاً في عصر يتسم بوتيرة متسارعة لا يكاد المرء يستوعب فيها ما لديه من معلومات قبل أن تتدفق عليها غيرها من مختلف القنوات، سواء من المصادر التقليدية أو من صيحات العصر الحديث المتمثلة في شبكات التواصل الاجتماعي التي أضحت في متناول جيب كل واحد منا ومن هنا تتجلى أهمية التوثيق، والتي أسهمت تلك الصيحات في تيسيرها لنا من خلال هواتفنا الذكية “إنتهى الاقتباس”.

ومن هنا تظهر أهمية موضوع لطالما إشتعلت بسببه الخلافات بين أبناء الأسرة الواحدة، بل وأبناء البطن الواحد بسبب عدم توثيق والديهم لحقوقهم على سبيل المثال لا الحصر، وكم سمعنا عن جرائم وقعت بسبب مواضيع تخص الميراث وتوزيعه أو ديون لم يتمكن أصحابها من تحصيلها بسبب عدم توثيقها أو بسبب “ليس بيننا مثل هذا” لتنقلب العاقبة حزناً وألماً على الأطراف كافة، ولو رجعنا لأوامر الله عزوجل لاسترحنا جميعاً وأرحنا غيرنا، فنرى الأمر الصريح بالتوثيق وخصوصاً فيما يتعلق بالديون في أطول آية في القرآن الكريم أو ما يعرف بآية الدين، والتي يقول الله عزوجل فيها: ﴿ولا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله ذلكم أقسط عند اللَّه وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا﴾ من الآية 282 من سورة البقرة، والأمر هنا واضح وضوح الشمس في وضح النهار بعدم التردد في توثيق الحقوق بيننا مهما كانت صغيرة أو كبيرة، حتى لا يترك مجالاً للشيطان وأعوانه للنزغ بالشر بين القلوب، ولتبقى العلاقات بين البشر هادئة هانئة مستقرة، وليكون ذلك سبباً في توثيق المحبة والاحترام فيما بيننا وتوثيق صلاتنا مع التقدم والتميز والرقي، تماماً كما يمكننا توثيق علاقاتنا البشرية فيما بيننا بالكلمة الجميلة والطيبة مهما إختلفت أشكالنا وألواننا ومعتقداتنا، الأمر الذي نحتاجه من أجل تشييد عمران القلوب بالمحبة والسلام للوقوف في وجه كل من ينفث سموم الكراهية والحقد والبغضاء والعنصرية والطائفية ويعمل على نشرها بين البشر في كل لحظة، ولأجل كل ذلك ما علينا سوى أن لا نستصغر ما نقدم للغير من خير مهما كان صغيراً كان أو كبيراً.

م. عبدالرحمن “محمدوليد” بدران

الاخبار العاجلة