صراحة نيوز – بقلم عبد الكريم شطناوي
تعود بي الذاكرة إلى اربعينيات وخمسينيات الألفية الثانية،عندما دخلت أجيالناللدراسة، في غرف صغيرة،مبنية من لبن(بلوك) الطين،سقوفها من جسور حديد،ومورينات من الخشب،يصف فوقه رماح من القصيب،يوضع فوقه اعشابا برية ثم توضع جفة من التبن،ثم تمد فوقه طبقة من الطين المصنوع من تربة خاصة والتبن الخشن والماء،ويدلك جيدا بالمدلك ليكون ناعما ملسا ليغلق مسامات الطين. غالبيتها بيوت مستأجرة، وارضيتها أما مصبوبة بالإسمنت والرمل،ومروبة بالأسمنت ومملسة بالمسطرين أو بمدة من الطين ومدلكة جيدا، شبابيكها أن وجدت صغيرة،وزجاجها مكسور، وإنارتها قليلة،ولا كهرباء بها،عشنا في العتمة،خاصة وأن الحصص اليومية ستة، أربعة قبل الغداء واثنتان بعد الغداء.
وليس حال من كان يعيش في بيوت الشعر أو الكهوف بأحسن حال.
أما عن المقاعد والكراسي فحدث ولاحرج،في الصفوف الثلاثة الإبتدائية الأولى،طاولة مستطيلة طويلة،وحولها كراسي صغيرة والسعة محدودة والوضع حاصر باصر واللي بقدر يكتب على دفتره والصفوف الأخرى مقاعد تسمى(بنك،رحلايه)يجلس عليه،ثلاثة أو اربعة حسب حجم التلاميذ،اكواعهم تدق بعضهم بعضا،والكتابة صعبة عالجميع.
وأماحقيبةالكتب،كيس من القماش(شريطة)وخيط
قيطان،ليعلق بالرقبة،وقلم الرصاص،إذا قصر وضع بفشكة ليزدادطوله،لتتحكم به اليد،والبراية فهي شفرة،
والمحاية قطعة كوتشوك.
والسفاين(الدفاتر)عدد اوراقها (٣٢،٤٨،٦٤،٩٦) ورقة.
وياعيني لما تدخل الشتوية،فسحاباتها تجود بمائهاالمتواصل يمتد اياما، إسبوعا أسبوعين وأكثر وكانت تدعى لزبات،ويا ويلك إن عطلت وإلا ما حليت واجباتك،فالعقاب ينتظرك.
وعن حال الغرفة الصفية بأيام الشتاء،لا تدفئة والبرد قارس ولما يزيد الشتاء وما تضبط جبسة طين السطح، تبدأ قطرات الميه تنقط على روسنا وموسيقاها في الأذن طج طج طج،والحالة المادية فقر،واللباس رث والحذاء صورة،ولما إنحل وانروح عالدور فلا سيارات ولا باصات تنتظرنا،نسير بالطرقات وإنبوطس بقني الماء، والشتاء زخ زخ زخ من السماء على روسنا ولما نصل الدور،تعال واتفرج تلاقي الميه تشقع شرارة من روسنا وملابسنا.(وتبدأ الوح وح وانابردانه)وتلاقي chوانين النار،وعليها قساميط وطبابيع الجلة، والدخانة مطبقة وتبدأ الدموع اسكابا يا دموع العين اسكابا،وما انشوف بعضنا من الدخاخين .
ويدخل الليل وتبدأ معاناة النسخ،وحل الواجبات، ورسم الخرائط كي نعرف حدود الأوطان،وحل المسائل الرياضية والهندسية،على كهربةسراج الغولة،ويشكل سنا السراج طلاء اسودا للأنف، فتنزل قطرات الأنف سوداء كالقطران،وهكذا تسير حياتنا الدراسية على هذا المنوال.
وبهذا القدر اكتفي، لأنتقل إلى سحابات وشتوات اليوم،فاليوم ما كل سحابة تجود بمائها،وشتوات اليوم حنينة وعطوفة،وإن كانت زايدةفلا حد يشعر بها، فالسيارات والحافلات تنتظر الطلاب،ولابسين وملبسين،فلا يبتلون ولا يمشون ببواطيس المية، يدخلون المدارس ووسائل التدفئة تستقبلهم،وعند عودتهم للدور الدافئةالكل يتشفشف عليهم والموائد
تنتظرهم وشبيك لبيك وكل شي بين اديك، والهواتف تنتظرهم،ولا نسخ ولا حل واجبات عليهم ولا رسم خرائط.
واما الغرف الصفية فهي مبنية على الطراز الحديث محكمة فلا دلف ولا شرارة ماء على الطلبة،واسعة ومقاعدها مريحة،،ودافية ومدفية والكل قايم على راحتهم، فلا حل واجبات ولا نسخ،لا ضرب ولاتوبيخ دلال بدلال إلى درجة أن لا أثر لعملية التدريس،النجاح مضمون،محمي بأنظمة وقوانين فلا فصل كما كان يحدث ايامنا فالترفيع تلقائي،استنفد حقه من الإعادة فلا إعادة،ويا ويلك يامعلم أن طلع صوتك على طالب أو أنبته،أو طلبت منه نسخ الدرس أو حل واجب بيتي،تجد اباه وقد جاءك فارعا دارعا مهددا متوعدا،هذا إن لم يتطاول بمد يده عليك ضاربا،أو ذاهبا للمحكمة مشتكيا.
وهنا يخطر ببالي صورة أب الأمس يأتي للمعلم ليشكره على جهده في تعليم إبنه ويقول له استاذ(الهبرات لك والعظمات إلي)،أرجوك أريد أن يتعلم ابني ليكون أفضل مني فأناحرمت من التعليم وأود تعويض ذلك بتعليم إبني.
اسمحوا لي هي خاطرة كتبتها لأبين صورة من الأمس مع صورة من اليوم وسامحوني إن اطلت أو اختصرت فالحديث يطول ويطول يا طويلي العمر والحياة السعيدة.
والخلاصة،أنه من وحي دلف الماء والبرد،والفلقة والعصاوالمسطرة،والنسخ،وقشب الأيدي تخرجت أجيال وأجيال حماة وسياجا وبناة للأوطان وبفصاحة لسان.
ومن وحي الدفا والعفا والدلال وقلة النسخ وعدم رسم الخرائط، تخرجت شهادات وكراتين لم تعرف حدود الأوطان فهانت عليها الأوطان،وبيعت بلا أسف وندمان، وبلا فصاحة بيان.
وارجو المسامحة….
د.عبدالكريم الشطناوي.
حواره(٢٣/١/٢٠٢٠)