صراحة نيوز – بقلم د . صبري الربيحات
في الولايات المتحدة الأميركية اليوم لم يعد covid-19 الهمّ الأول للساسة ولا لمحطات التلفزة ووسائل الإعلام، فقد أصبح الجميع منشغلا بالأحداث التي تجري في شوارع منيابولس وفيلادلفيا وهيوستن، بعدما أدرك الجميع أن قيم وممارسات التمييز العنصري والاستعلاء والرغبة في الهيمنة والتسلط لا تزال موجودة بالرغم من اعتقاد البعض أنها اجتثت في الإصلاحات التي تبنتها البلاد في ستينيات القرن الماضي.
أميركا التي نصّبت نفسها شرطيا على العالم وحارسا للديمقراطية وراعيا لنشرها تواجه اليوم أزمة عميقة تكشف الستار عن هشاشة بنائها وزيف زعمها وبطلان ادعاءاتها. أحداث الصدام والعنف التي اجتاحت مدنا وولايات عديدة تسلّط الضوء مرة أخرى على عمق الانقسام الذي يشهده المجتمع الأميركي، وحجم الصلف والغطرسة والتعصب الذي تمارسه الطبقة السياسية المتحالفة مع أصحاب الشركات ورؤوس الأموال، وتشي بتجذر النظرة الاستعلائية في فلسفة وتاريخ ووجود هذه الطبقة التي تأسست وانبثقت من الممارسات المتأصلة في قيم العبودية والاقطاع والاستغلال.
لقد تمكنت الولايات المتحدة ومنذ دخولها المتأخر للحرب العالمية الثانية إلى جانب الحلفاء وإلقاء القنابل الذرية على هيروشيما وناغازاكي أن تخلق حالة من الرعب والردع في أوصال العالم وتؤسس لمكانة خاصة لها ساعدت على توليها الدور القيادي الأهم في تأسيس منظمة الأمم المتحدة وصياغة ميثاقها ونظامها بالصورة التي منحتها قوة ونفوذ الرفض والتواجد مع حلفائها في المقاعد الدائمة لمجلس الأمن الذي تحكم في شؤون وصراعات العالم خلال العقود التي تلت تأسيس المنظمة.
تحت وقع الردع النووي والخوف العالمي من تكرار تجربة هيروشيما وناغازاكي تجبرت الولايات المتحدة وتغطرست وهيمنت على العالم دون أدنى خوف من الرفض أو التمرد والعصيان فعملت على فرض أجندتها وتحكمت بالاقتصاد واستضافت المؤسسات الدولية الحاكمة له ليصبح الدولار الوحدة الأهم والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي مؤسسات الاعتماد والشهادة التي تتسابق دول العالم على التقرب منها والحصول على مباركتها.
إلى جانب الهيمنة على الأمم المتحدة ومجلس أمنها استمرت الولايات المتحدة في ممارسة كافة أشكال التعنت والغطرسة والمعارضة والتعطيل لكل ما لا يتفق مع نظرتها ويخدم مصالحها. في قضايا التجارة والمناخ والحد من انتشار السلاح النووي والعلاقة مع العالم الإسلامي، والموقف من التقدم والتنمية حاولت الولايات المتحدة أن توقف كل محاولات النهضة العربية وزرعت في جنبات الأمة جيوب التخلف فدعمت الأنظمة المستبدة والعميلة واستولت على الموارد وتحكمت في أسعار البترول ووقفت في وجه حركات التحرر والاستقلال وساندت أعداء الأمة وخلقت الفتن وغذت التبعية وتدخلت في اختيار وتنشئة ورعاية قواعد واسعة من العملاء ومكنتهم من الوصول إلى مواقع القرار في بلدانهم.
اليوم وكنتيجة لتقلص النشاط الاقتصادي وتنامي القلق والخوف من أخطار انتشار الجائحة وعجز الأنظمة السياسية والاقتصادية عن التصدي لهذه المشكلة أصبح الجميع يشكك في مشروعية التفويض الممنوح للقوى والأحزاب لممارسة السلطة وتكشف عجز ومحدودية قدرات من يتولون السلطة وبؤس الأدوات والوسائل والخطاب الذي يتبنونه لإدامة الهيمنة فاشتعل الغضب الشعبي وثارت الطبقات المهمشة وأثيرت الأسئلة حول مشروعية النظم والقيم والترتيبات القائمة لتوزيع المراكز والأدوار والثروات.
في أميركا وخارجها لا يملك أحد إجابات جاهزة لأسئلة الجماهير الغاضبة ومطالبها لكن الجميع منشغل بتحديد الأسباب وإلقاء اللوم على من يعتقدون أنه مسؤول عن تفجير الموقف. على مساحة الفضاء السياسي تتحول الأحداث القائمة إلى قضية خلافية يحاول كل من الأحزاب السياسية بأن يلقي مسؤولية تفجيرها على الآخر.
الروح العدوانية وسورات الغضب ومشاعر التحدي التي تسيطر على مزاج الرئيس الأميركي وزعماء الحزب الديمقراطي أصبحت الوقود الذي يلهب الشارع ويغذي حالة الانقسام. البذاءة التي يتحدث بها الرئيس عن رئيسة مجلس النواب والأوصاف التي تكيلها نانسي بولوسي لدونالد ترامب أزاحت عن السياسة والعمل العام كل ما تبقى من قواعد الدبلوماسية واللباقة التي طالما عرفت بها. اتهام الرئيس بالجنون والرعونة وعدم الأهلية للحكم من قبل رئيسة المجلس المنتخب وردود الرئيس بصفات وألفاظ أكثر حدة مؤشرات قوية على عمق ومستوى الأزمة التي تعصف بالدولة والنظام الذي اعتقد لسنوات أنه الأفضل والأنسب والأكثر ديمقراطية ومراعاة لحقوق وكرامة الإنسان.