صراحة نيوز – بقلم د . صبري الربيحات
المنسف الاردني الذي تطور عبر العقود من طبق يقدمه الناس لضيوفهم في المناسبات الى طقس شعبي وطبق وطني يحمل معاني ودلالات تتجاوز كونه طعاما ليصبح رمزا للثقافة والهوية والقيم التي تميز الاردنيين عن غيرهم من الامم والشعوب يتعرض الى تشويه وتحريف واساءة استخدام.
المكونات اللازمة لاعداد المنسف والمناسبات التي تستدعي اعداده والقواعد التي تحكم طريقة تناوله واسلوب التحلق حوله والمعاني التي يضفيها الناس على الاداب والقواعد التي تحكم تناوله اصبحت معروفة للصغار والكبار ولمختلف شرائح المجتمع بشكل ومستوى جعلت الشعوب والامم الاخرى تربط هذا الطبق بمكوناته ومذاقه ودلالاته بالثقافة الاردنية.
اليوم وبلا مقدمات وباسم التحديث اقبل بعضهم على احداث تعديلات على طريقة تحضيره وتقديمه. في بعض المناطق اصبح بعضهم يقدم هذا الطبق العريق في اكواب من الكرتون كما يقدم الشاي او العصير او حبات الذرة الصفراء، وفي مواقع اخرى شوه بعضهم صورة الطبق التقليدي المهيب بتحويله الى فطائر على شاكلة اقراص البيتزا ينثرون عليه قطعا من اللحم ويسكبون عليه سائلا ابيض بعد النضوج. ولم يتوقف الامر عند هذه التحويرات بل ذهب بعضهم الى ابعد من ذلك ليقدموه على هيئة لفائف من الخبز محشوة بقطع اللحم والارز وبما يشبه لفائف السوشي اليابانية وفطائر الخضار التي تقدمها المطاعم الصينية.
لا احد يعترض على ان يقدم الناس ما يشاءون من الاطباق والماكولات وبالطرائق التي يرونها، لكن الاعتراض يأتي على تسمية ما يجري تقديمه بالمنسف. فالمنسف اكثر من مكونات فهو طريقة وثقافة ورمز واسلوب اعداد وتناول ينبغي ان تتم حمايته من التشويه. في بلادنا يعد المنسف موروثا شعبيا يعود تاريخه الى الاف السنين فقد عرفه المؤابيون وحمل دلالات التناقض والصراع مع القيم والمعتقدات العبرانية التي تحرم اكل اللحم مطبوخا باللبن. في المشرق العربي كان الناس يعدون الطبق بمكونات اللحم والخبز والمرق قبل ان يصل الارز من شرق اسيا والصنوبر واللوز من من شرق اوروبا والباكستان.
حتى زمن قريب من غير المتوقع ان يجتمع الناس في الخيم والصواوين والصالات دون ان يكون المنسف حاضرا فقد اصبح مرتبطا بالاحتفالات والمآتم والمناسبات والولائم. في كل مدينة وقرية ومخيم نشأت العديد من المؤسسات والمطابخ والمطاعم المتخصصة باعداد الطبق الاردني الاول وتقديمه في المناسبات.
لاكثر من نصف قرن بقي المنسف محافظا على هيبته وطقوسه فلم يجرؤ احد على تغيير هذه الطقوس او تبديلها او الانتقاص منها. ايا كانت مصادر اللحوم وبغض النظر عن جودة الجميد وطرائق التصنيع لم يسبق ان خالف اردني قواعد السكب والاعداد والتقديم، فقد طور الاردنيون ملكة نقدية تميز انواع اللحوم ومصادر اللبن وطرائق الطهو واصبح الجميع قادرا على تمييز جودة الطهو وكرم او شح المضيف. الاغنية الشعبية التي تقول كلماتها “منسف ع جاج ما يعجب اردنية” تعبير عن استعداد الرقابة الشعبية للوقوف في وجه التحريفات وانتقادها والضغط على من يقومون بها.
كنت وما زلت اتمنى على الاخوة اصحاب الابتكارات ان يطلقوا اسماء مختلفة على منتجاتهم الجديدة تنأى بها عن صورة هذا الطبق الذي ظل عاملا مهما من عوامل التماسك والتفاعل والحوار على الطريقة الاردنية فهو وسيلة لرأب الصدع وتطييب النفوس وحل النزاعات والمباركة في الاعراس والترحم على الموتى وكسب التأييد والفوز بالمقاعد السياسية.
دون تفكير او تدقيق اجمع الاردنيون على ان الجميد الكركي هو الاجود والسمن البلقاوي هو الاشهى واصبحت اسماء المناطق علامات تجارية بالرغم من التحول الكبير الذي شهدته عمليات انتاج الجميد ودخول الات التصنيع التي تنتج جميدا يخلو من اي اثر للدهون التي كانت تعطي مذاقا خاصا لجميد زحوم والعدنانية ومؤته.
صيف هذا العام مختلف عن السنوات السابقة فلا سفر ولا رحلات ولا ولائم او حفلات الا في حدودها الدنيا. الناس يلملون حاجياتهم ويستعدون لمغادرة اماكن سهرهم قبل الموعد المحدد للتجول. والجميع يضعون ايديهم على قلوبهم ويتخوفون من ان تزداد الاوضاع سوءا وتعود بنا الحكومة الى وضع الحظر شبه الكامل الذي اتبع في اذار ونيسان وايار.
الخوف ان تسهم هذه الظروف في اقبالنا على اكواب المناسف الجديدة ويسرق من ثقافتنا الطبق الذي ظل شاهدا على الكرم والالفة والشهامة الاردنية.د