صراحة نيوز – كتب باسل العكور
يبدو ان الدعوة للاصلاح في بلادنا تفضي دائما الى نتائج عكسية تماما ، لا سيما ان المنتدبين في اللجنة الملكية التي شُكلت لاصلاح المنظومة السياسية ، ينتمون لمشارب فكرية لا يمكن التوفيق بينها ، ولا توجد ارضية مشتركة يلتقون عليها عندما تنشب الخلافات في الرأي ، و يتمترس كلٌّ خلف قناعاته الخاصة !!
هناك من يظن اصلا ان اعضاء كثر في اللجنة لا يعرفون مكامن الخلل في المنظومة السياسية ، حتى يُكلَفوا بتعديلها واصلاحها و عصرنتها ! .. لا نظنهم قرأوا ما كُتب ويُكتب في هذا الشأن ، ولا اطلعوا على الاختلالات وعرفوا كيف يجري تصويبها ، و استبدال النصوص الشائهة ، باخرى تنهي عهود استحواذ البعض و هيمنتهم وانقضاضهم على السلطة و اختطافهم لها .
لن نعود للاسئلة الكبيرة المتعلقة باليات اختيار الاعضاء و طبيعة المحاور و الاولويات التي كان يفترض ان تجري مناقشتها في هذه اللجنة اذا كان الهدف فعلا هو الاصلاح ، ولكننا بنفس الوقت سنظل نكرر و في كل مناسبة مخاوفنا من اضاعة الوقت ، والتفريط بهذه الفرصة ايضا ، كمال جرى التفريط بغيرها ..
لسنا مهووسين بالنقد كما يتهمنا البعض ، و لكنها اسئلة مشروعة وقلق له ما يبرره ، و ذلك في ظل اتساع فجوة الثقة بين الناس والسلطات ، و التشكيك الملازم لكل ما يصدر عن السطات من افكار و لجان و برامج فشلت كلها في تحقيق المراد والمنشود.
سقنا هذه التوطئة لنؤكد على اهمية ان يجري وضع اعضاء لجنة اصلاح المنظومة السياسية -اولا وقبل كل شئ – في صورة التطور الطبيعي للديمقراطيات و الانظمة السياسية ، و كيف ان عودة السلطة ، كل السلطة للشعب حتمية تاريخية ، و كيف ان الانظمة التي استمرت في تحدي ارادة شعوبها خسرت كل شئ ..
هذه بدهيات كان يفترض ان ينطلق منها اي جهد اصلاحي في بلادنا ونحن ندخل مئويتنا الثانية ، فلا بد ان يتم التوافق على ارضية فكرية قيمية مرجعية صلبة ينطلق منها الحوار ، ويعود اليها كلما تعمق الخلاف والتباين في وجهات النظر بين اعضاء اللجنة الملكية المكلفة باصلاح المنظومة السياسية .
وهنا نجد انفسنا ملزمين بالعودة الى واحدة من اهم و اشمل و ادق المراجع العلمية التي تناولت هذا الملف- الاصلاح السياسي – بكل تفاصيله و حيثياته ، وهنا نتحدث عن كتاب المفكر والفقيه الدستوري الاستاذ الدكتور محمد الحموري ( المتطلبات الدستورية و القانونية لاصلاح سياسي حقيقي ، لماذا … و كيف ؟ ) الذي صدر بطبعته الاولى عن دار وائل للنشر والتوزيع في العام ٢٠١٥ ، وهو المرجع المحكّم الاهم الذي عالج كل ما يتعلق بالاصلاح السياسي ، و ما يتطلبه ذلك من تعديلات في الدستور والتشريعات النافذة ، المرجع الذي حدد النصوص الملتبِسة و غير الاصلاحية ، و وضع البدائل التي تحولُها الى نصوص اصلاحية تضعنا في مصاف الدول الناهضة و القادرة و المتمكنة من اصلاح نفسها دون كلف سياسية وامنية باهضة ..
المؤلف الحموري في مقدمة كتابه الهام نقل قصة عن الملك الراحل الحسين بن طلال طيب الله ثراه ، عن تلك النصيحة التاريخية التي اسداها لشاه ايران ، قبيل سقوط حكمه بعد اندلاع الثورة الايرانية في العام ١٩٧٩ ، و هنا نقتبس من كتابه دون تصرف :
” قال لي احد الاشخاص ما سمعه عندما كان حاضرا عن نصيحة الملك حسين رحمه الله للشاه و موقف الشاه من تلك النصيحة و بدوري اعيد روايتها لتعلم الاجيال جانبا من ذهنية أولئك الذين يعتقدون انهم اقوى من شعوبهم وان السوط وحده كفيل بحمايتهم ، وانه لا قيمة لارادة الشعب عندهم .
فقد حضر احد الاشخاص الى مكتبي بشأن قانوني، وقد كنت اسمع كثيرا عن قربه وملازمته لملكنا الراحل في حله وترحاله ، ولم اكن قد اجتمعت به او قابلته سابقا ، وفي حديثنا عن الشأن العام في وطننا كما هو حال الاردنيين في جلساتهم ، قال الرجل : كنت مع المرحوم الملك حسين في اخر زياره له الى شاه ايران ، وعرض الملك في اجتماعه مع الشاه ، ما يتناهى الى علمه عن الاحوال في ايران ، وعن اثر خطابات اية الله الخميني التي تصل تسجيلاتها الى الشعب الايراني ، ناصحا بان يقوم الشاه بزيارة ايات الله في قم ، للمساهمة و الوصول الى تسوية معهم ، مؤكدا له انه على استعداد ان يصحبه اليهم ، لما بينه وبينهم من صلة قربى ورحم ، كأبناء عمومة له ( اذ ان الملك الحسين من احفاد الحسن بن علي بن ابي طالب ، و هم من احفاد الحسين بن علي بن ابي طالب ) . وما ان انتهى الملك من حديثه ، حتى هز الشاه رأسه مبتسما وقال : لا داعي لان اعطي ساكني قم اكبر من حجمهم ، فانا اعرف جيدا حجمهم ومحدودية اثرهم ، ولن يستطيعوا فعل ما يؤذي ، ثم من هو هذا الخميني الذي تتناقل بعض الاخبار انه يمكن ان يحرك شعبي ضدي وهو في باريس ، اطمئن يا جلالة الملك فاجهزة الدولة قادرة عليهم ان تمادوا . و زاد ضيف مكتبي ، حاول الملك بادب جم بزحزحة عناد الشاه الا انه لم يستطع ، وعندما غادرنا ، قال الملك امامي : ليس هناك من حاكم يسلك طريق تحدي شعبه او يتجاهله ، يمكن ان يستمر في الحكم ، فقد وصل الشاه اخر الطريق وامره مسألة وقت .
ويتطابق مع القصة السابقة ، ما يرويه فريدون هويدا في كتابه سقوط الشاه (the fall of the shah) عن كيفية انفصال شاه ايران عن شعبه ودور بطانته في هذا الانفصال . والكاتب فريدون هو دبلوماسي ايراني وروائي وباحث ، والده كان في الاصل خبازا ، ولكنه عشق العلم وعلم نفسه بنفسه ، وصعد في المناصب ، وتزوج اميره من عائلة القاجار المالكة ، وتم منحه لقب ” عين الملك “. و مع حلول اسرة الشاه بهلوي في السلطة ، استمر بالعمل والصعود معها ، وقد اشتهر له ولدان . فولده الاكبر الامير عباس هويدا الذي اصبح رئيسا لوزراء الشاه ورئيسا لديوانه ، ثم اعدمته الثورة الايراني عام ١٩٧٩، اما ولده الثاني فهو فريدون الذي امضى اغلب حياته في الخارج دبلوماسيا وباحثا يكتب بالفرنسية والانجليزية . يروي فريدون هويدا في كتابه سقوط الشاه نيويورك ١٩٨٠ ، ان الشاه وصل الى مرحلة اصبح يعتقد فيها انه فوق مستوى البشر ، وان رجال الدولة امامه مجرد تلاميذ صغار ، يسهب في حديثه لهم من باب تعليمهم . وفي مقابل ذلك استقر الحال في جلوسهم معه وسماحه لهم بالحديث ، على تسابقهم في مدحه واختلاق القصص التي يتحدث بها الناس عن عظمته وقدراته الخارقة . ويضيف فريدون هويدا ، وتدريجيا تفاقمت الحالة عند الشاه ، فقد اصبح يتحدث في الاستراتيجية السياسية والعسكرية في المنطقة امام من يحملون اعلى المؤهلات المتخصصة ، ولا يستطيع اي منهم الا ان يعلن امام الشاه ، انه يتعلم منه كتلميذ ، رغم انه عند خروجه يؤكد انه لم يكن يعتقد ان الشاه على هذه الدرجة من الجهل والسطحية بما يقول . و مما اورده فريدون ، ان الشاه لم يكن يؤمن بالاحزاب السياسية ، ومع ذلك كان يتحدث مع زواره من رجال السياسة الغربيين عن اهميتها ، وكان اكثر ما يعتمد عليه الشاه هو جهاز مخابراته “السافاك” حتى اصبح هذا الجهاز يمسك بكل مفاتيح واعصاب الدولة وحركتها ، ومع ذلك كان يتحدث عن الديمقراطية التي يعيش في بحبوحتها شعبه ! ويبين فريدون ان التقاليد عند السلطات والبطانة في قصر الشاه ، كانت تستوجب عدم ابلاغه اخبارا او معلومات تشكك في ولاء الشعب الايراني له ، حتى لا ينزعج او يكدر خاطره ، وعذرهم عند الاقتضاء ان مخابرات الشاه السافاك والاجهزة الاستخباراتية والامنية كفيلة بالاجهاز على من تظهر عدم موالاته للشاه ، وبالتالي لا داعي من ازعاج الشاه بمثل هكذا اخبار .
وعندما كان بعض السفراء يلمحون للشاه بمثل هذه الامور ويسأل البطانة عنها ، يكون الجواب ، بان هناك اعدادا قليلة من المشاغبين الذين يشكلون حفنة مارقة ، ولا داعي لان يشغل نفسه بهم ، فهم صوت نشاز يظهر ويختفي كما في جميع الدول ، ولا قيمة لهذا الصوت امام الحب العارم له من الشعب الايراني الذي يفتديه بدمه ، ويعلن ذلك في مسيراته وتحشداته .
ويؤكد فريدون هويدا في كتابه ، انه في اواخر عهده طاف الشاه بالهليكوبتر ، يقودها بنفسه في سماء طهران ، حيث كانت المظاهرات المعادية تملأ الشوارع استجابة لنداءات الخميني من باريس ، لكن الشاه كان قانعا انها جموع الموالين ، وعاد فرحا ليقول لرئيس ديوانه ومن خف لاستقباله في القصر ، لقد رأيت بام عيني شعبي في الشوارع والميادين وهو يعبر عن حبه لي ، وهو الرد العملي على الدول والجهات التي لديها شك في ولاء هذا الشعب العظيم لي ! والتزم الجميع الصمت! ” وهنا انتهى الاقتباس ..
وللحديث بقية ….