لم يفوت رئيس الوزراء الأسبق عبدالكريم الكباريتي فرصة الاحتفاء بإطلاق مذكرات الدكتور يوسف القسوس دون تصريحات مثيرة للجدل، ما تزال تحظى باهتمام وسائل الإعلام. الاحتفالية التي أُطلقت بها مذكرات القسوس تحت عنوان «بين الجندية والطب.. رحلة عمر ومسيرة وطن»، حظيت بحضور كبير، ووازن سياسيا، فالطبيب الجندي القسوس عايش محطات مهمة من تاريخ الأردن، واقترب كثيرا من الراحل الملك الحسين، فأصبح ذاكرة سياسية بامتياز. حظيت في العقدين الماضيين وأكثر بشرف معرفة د. يوسف القسوس، وكلما التقيت «طبيب القلوب» بث بي روح التفاؤل، واحتواني بدماثته، وغمرني كما يغمر كل أصدقائه ومرضاه بإنسانيته، ومحبته. لم أسعد حتى الآن بقراءة مذكرات الباشا، ولكنني مُتيقن أن هذا الكتاب يُشكل مرجعا يوثق محطات سياسية مهمة في تاريخ الأردن، والذين تحدثوا، وشاركوا في إطلاق المذكرات (رجائي المعشر، د.عزمي محافظة، د. أسعد عبد الرحمن، وفي مقدمتهم الكباريتي) سلطوا الضوء على الكثير من سيرة القسوس الطبية، والحياتية، والسياسية، وبالتأكيد فإن يومياته ستشي عن أسرار عايشها. كلما استدعي التاريخ المشرق للخدمات الطبية الملكية كان الباشا يوسف القسوس حاضرا، ففي عهده مديرا للخدمات الطبية كانت صرحا طبيا يُشار له بالبنان، ليس في الأردن فحسب، وإنما في المنطقة. الكباريتي الذي يتجنب الظهور في المناسبات العامة، والغائب طوعا إلى حد كبير عن المشهد السياسي، كعادته يستخدم مشاركاته وإطلالته ليبعث برسائل سياسية، وهو ما كان يفعله سنويا في اجتماعات الهيئة العامة للبنك الأردني الكويتي الذي كان يرأس مجلس إدارته. تصريحات الكباريتي في الاحتفالية لخصت الوضع بقوله «وطن هائم على وجهه، بلا بوصلة، ولا طريق»، وهي تأتي في ظل تزايد الأزمات بعد إنهاء لجنة تحديث المنظومة السياسية أعمالها ومخرجاتها، وبعد أن قدمت الحكومة تعديلات دستورية، وإثر توقيع الحكومة لإعلان النوايا «الكهرباء مقابل الماء» بين الأردن وإسرائيل. توقف الكباريتي قبل استدعاء الحالة السياسية في البلاد عند محطات في حياة الطبيب القسوس، فأعاد إلى الأذهان قصته حين تأخر عن مريضة مسنة راقدة على فراش العافية، وعندما أسرع لزيارتها معتذرا لحالة طارئة، أجابته «أنت يا دكتور طلتك على المريض مثل طلة الندى على الزهر». ويعرض الكباريتي في كلمته لمرافقة القسوس للملك الراحل الحسين في رحلة علاجه إلى اميركا، وكيف أمره الملك بالعودة إلى عمان قائلا «أنا اخذت حقي منك، فارجع إلى عمّان فهناك من هم أحوج مني إليك، وستظل من الذين اعتز بهم». لم ينسَ الكباريتي في عرضه الإنساني أن يُذكر بحادثة إنقاذ خالد مشعل، قائد حماس حين كان الباشا مدير للخدمات الطبية، وعلاج الزعيم الفلسطيني، ياسر عرفات. كلمات الكباريتي في سرد ذكريات القسوس موحدة، وملهمة، وترسخ قيما إنسانية، وتكشف عن عطاء لا ينضب لطبيب أقسم أن يبقى جنديا يدافع عن قيم الحياة. المناسبات لا تمر عند الكباريتي دون بصمة سياسية يتذكرها الجميع، ولهذا كانت كلماته لا تخلو من نقد قاسٍ للواقع الذي يعيشه الأردن، فهو يقول «ما أحوجنا اليوم إلى ذلك الرصيد من الأكفياء القادر على أن يحمل مسؤولية نقلة حضارية، ونحن ننتقل من مئوية إلى أخرى، وطرد العتمة التي تسربت إلى قلوبنا خوفا من أننا نندفع إلى ليل طويل نعاني منه من اختلالات مالية ومائية، اقتصادية واجتماعية، وجيوسياسية وديموغرافية، وجائحة جامحة تفترس من صحة الوطن والمواطن، وتستدعي مشاعر وكأننا هرمنا ووصلنا إلى مرحلة لم نعد قادرين على التقدم، وأننا نعاني من حركة تقهقرية تنذر بانقطاع التيار المتصل المتدفق بما جهدت به الأجيال المتعاقبة في العمل على بناء الوطن». ويُكمل واصفا الحال ومحذرا «الوطن الذي لا يقبل التسليم بدخول المئوية الثانية وعلى مركب نحن على متنه، هائم على وجهه، بلا طريق أو مقصد، ولا رؤية أو بوصلة، مركب في بحر إقليم هائج، متكلين فيه على حسن النوايا حتى لا أقول اتفاق النوايا، والثرثرة على ضفاف الحقيقة، أروقة المؤتمرات، مُتعامين عن واقع الحال، متغافلين عن أوحال الأحوال، مسلمين أمرنا للزمن». التشخيص القاسي للكباريتي لحالة البلاد، سبقه انتقادات من رئيس الوزراء الأسبق، عبدالرؤوف الروابدة حين تحدث عن غياب الحكومة عن كل ما يجري في البلد، والإشارة إلى أن الجو مُحتقن ومُحبط، وأن الإصلاح لا يتم بهذه الطريقة، وتتقاطع هذه التصريحات مع كلام رئيس مجلس الأعيان، فيصل الفايز من قلقه البالغ اليوم. قبل أسابيع كان رئيس الوزراء الأسبق رئيس اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية، سمير الرفاعي غاضبا من إجراءات الحكومة باعتقالها للمحتجين سلميا، وكتب على صفحته «في الفم ماء»، وبعدها نشر في وسائل التواصل الاجتماعي صورة للرفاعي تجمعه مع رئيس الحكومة بشر الخصاونة لعلها تخفف نيران الانتقادات، وتوحي بتفاهمات تجمعهما معا. المذكرات للسياسيين، ورجال الدولة فرصة لاسترجاع العهد الذهبي للدولة، وهذا كله لا يُخفي إخفاقاتنا الآن، وبالطبع لن يوقف حملة الانتقادات العلنية المتزايدة للحكومة، والمهم أن من يقود قاطرتها اليوم رؤساء حكومة سابقون، وكل له منطلقاته، ومبرراته، وسياقه السياسي الذي يختلف مع الآخر، لكنهم مجمعون أن هناك أزمة تعصف في البلاد.