في أقصى حوش الدار كان لدينا “طابون” قديم ،منخفض السقف كانحناءة عجوز، بابه إلى الشرق ،طُليت جدرانه بالسناج المزمن، يتنفّس أدخنة في الجوّ البارد وقت المساء وساعات الصباح الباكر كعسكري مناوب على خط الحدود..وكانت أمي سيدة المكان ، ووجه البدر في العتمة.. كان الطابون يلتهم الحطب كل الحطب ،ساق سروة هدّها التعب، قنابة الزيتون قبل زفاف تشرين ، ويد كرسي أقيم عليه حدّ “سرقة العمر”..وأمي تمسح دموعها من خليط الدخان لتقلّب لنا أرغفة ينضجها قلب الطابون المحترق..كان الجمر برداً وسلاماً على يديها..لأنها خبّازة الجمر و سيدة المكان. تلك الأدخنة ، دخان الطابون، ودخان صوبة الفوجيكا قبل الغروب ، واحتراق جذع شجرة كغليون في فم الفرن الطيني..أشتم رائحتها، كلما نزل الشتاء بخيمته الرمادية فوق ذاكرتي.. ** كانت أمي “قائد فصيل الأشياء كلها ..حبل الغسيل كان يخفض لها جناح الذل عندما تريد أن تلقي على وتره قميصاً مغبسولاً أو تنشر ثوباً مبلولاً…ثم يهتز منادياً الريح لتأرجحه من جديد ..وفي أقصى الدار كانت تتبعها الدجاجات أينما ذهبت يغادرن المكان بكلمة “كش” ويهرولن إليها بكلمة “تيعا”، ويغادر حدود بيتنا الحمام الغريب عندما تقول له: “غريب..غريب”..من طقوسها اليومية الا تكلّف أحداً بمهامها ، كانت نضع القمح “بحمّامية”صغيرة وتمشي نحو المعلف والدجاجات يمضين على خطاها ويبقبقن فرحاً..حتى الحمام كان ينقر نافذتها ان تأخرت بالنوم أو نسيت أن تتفقّده ذلك الصباح..في آخر أيامها كان فراشي ملاصقاً لفراشها، و كنت أسمع نقر الحمام على شبّاكها وكأنه يريد أن يطمئن أن سيدة المكان ما زالت على قيد الحياة… كل ما هو داخل حدود البيت كان يرى نفسه ابنها او ابنتها حتى لو كان جماداً..لقد “أنسنت” أمّي الأشياء بحبّها..كيف لا يحبها صحن عمره أكثر من ستين عاماً ما زال في نمليتها ، كيف لا تتسابق حبّات المسبحة لينزلن بين أصابعها فيحدثن تلك الطقطقة الشهية وقت الفجر ، كيف لا يحزن عليها كوب زجاجي فيروزي اللون ظل بين يديها خمسين عاما ، كيف لا تفتقدها “البنّورة” وتأبى أن تشتعل من جديد بعد أن انطفأ وهج سيدّتها في البيت.. أمي كانت سيدة المكان وقائد “فصيل الأشياء”..قبل أيام قليلة من رحيلها..دون سابق إنذار أو عاصفة ، سقطت شجرة الخوخ التي كانت تظلل شبّاكها لأكثر من ثلاثين سنة، خفتُ يومها وقلت بنفسي كم أخشى من الرحيل!!..لم تمض سوى أيام قليلة ورحلت سيدة المكان.. في عيدك ،كل شيء يحنّ إليك، يذكرك،يفتقدك، يبكيك،يشتاقك ، يصدقكِ..ثماني سنوات و لا شيء تغيّر في المكان، فراشك العسلي ،حرامك، وسادتك ، مفتاح الدراج، كل شيء كما هو ، أماكن الصور التي اخترتها، وطريقة صفّ الأكواب في النملية ، وكتبي التي قرأتها بقلبك،مواسير الخياطة،والبنّورة ودرّاجك الذي يحوي ألبوم قديم وجزدانك وبعض نتائج فحص السكري..كل هذه الأشياء ، يذكرك،يفتقدك، يبكيك،يشتاقك ، يصدقكِ..ثماني سنوات و لا شيء تغيّر في المكان..سوى أنه يفتقد سيدة المكان..