صراحة نيوز – كتب موسى العدوان
القصة الحقيقية التالية جرت أحداثها قبل ما يزيد على 44 عاما، وسأرويها اليوم لعلّ فيها ما يفيد من أراد الفائدة من العسكريين، كما أن بها تذكار بما قدمة بعض ضباط القوات المسلحة في ذلك الحين، عليهم رحمة الله تعالى.
ففي أوسط عام 1976 عّينت رئيسا لشعبة التخطيط والتنظيم، بعد انتهاء خدمتي المقررة كمعلم في كلية الأركان الأردنية. وهذه الشعبة هي إحدى شعب مديرية التخطيط والتنظيم التي تظم أيضا شعبة الدراسات وشعبة المشتريات في مديرية التخطيط والتنظيم، التي ترتبط بمساعد رئيس الأركان للتخطيط والتنظيم.
وفي أوائل عام 1978 شُكلت لجنة برئاسة مدير البحث والتطوير آنذاك، العميد الركن عفيف الغول وعدد من الضباط، وعُينت أنا سكرتيرا للجنة بحكم وظيفتي وأحمل رتبة عقيد. كُلّفت اللجنة من قبل مساعد رئيس الأركان اللواء الركن عبد الهادي المجالي بإعادة هيكلة القوات المسلحة دون بيان التفصيلات المطلوبة.
وحسب مفهومنا كلجنة لإعادة الهيكلة، بأن القصد إعادة دراسة الهيكل التنظيمي للقوات المسلحة، وبناءه بأسلوب علمي متطور يناسب الأوضاع القائمة، وليس تخفيض حجم القوات المسلحة، كما هو متعارف خطأ على معنى هذا الاصطلاح، حيث كنا ما نزال في حالة حرب مع إسرائيل.
اجتمعنا في مكتب رئيس اللجنة، وفردنا الخرائط العسكرية للواجهات الأمامية، ابتداء من هضاب الضفة الشرقية لنهر الأردن، ومرورا بوادي عربة، والحدود الشمالية التي يهددها الخطر من هضبة الجولان السورية المحتلة.
ثم بدأنا بتقدير الواجبات للوحدات العسكرية، التي نحتاجها للدفاع عن الأردن في حالة قيام العدو بالهجوم عليه من أي اتجاه. وبعد دراسة استمرت لبضعة أيام، مع الأخذ بالاعتبار الدعم المالي العربي لنا كدولة مواجهة، خرجنا بنتيجة أننا نحتاج إلى فرقتين بكامل اسنادهما القتالي والإداري، إضافة إلى الخمسة فرق الموجودة لدينا على الأرض.
أطلعنا المساعد للتخطيط والتنظيم اللواء الركن عبد الهادي المجالي على النتيجة التي توصلنا إليها، لأخذ موافقته الأولية عليها تمهيدا لوضع التفصيلات المطلوبة. ولكنه فاجأنا بالقول: أن المطلوب هو تخفيض حجم القوات المسلحة وليس زيادته، وذلك بسبب النقص في غطاء القوى البشرية، وعدم الإقبال على التجنيد. فقلنا له: نرجو تحديد الحجم الذي تريدون الوصول إيه، بدلا من إضاعتنا للوقت في قضايا جانبية بعيدة عن الهدف.
فقال اللواء الركن عبد الهادي: بصراحة نرغب بتخفيض فرقة والاكتفاء بأربعة فرق، إضافة للمنطقة الجنوبية والألوية المستقلة والخدمات الإدارية اللازمة لها، وأن نجري تعديلا على أسماء بعض الفرق، وإدخال ونقل بعض الوحدات من وإلى الفرق، بحيث تظهر العملية وكأنها دمج بين تشكيلات القوات المسلحة، وليس تخفيضا في حجمها.
وفعلا قمنا بحلّ فرقة وأدخلنا وحداتها في الفرق الأخرى وأعدنا توزيع الوحدات وتسمية بعض الفرق بأسماء جديدة. وعندها كلفني المساعد للتخطيط والتنظيم، بوضع ( جدول تنقل ) لإنجاز إعادة الهيكلة بحيث ينتهي خلال 48 ساعة، مع الحفاظ على عدم إخلاء الواجهات الأمامية من القوات.
فكّرت في كيفية وضع جدول تنقل لهذه الوحدات، فبعضها سيتحرك من الغرب إلى الشرق أو العكس، وبعضاها من الجنوب إلى الشمال وبالعكس، وستكون بتشكيلات متكاملة أو بوحدات جزئية. ومثل هذا الجدول يصعب وضعه بدقة، لأنه سيأخذ العديد من الصفحات، كما سيتسبب بسوء الفهم لدى المستقبلين، وقد يؤدي إلى تداخل مع النقل المدني على الطرق العامة ووقوع الحوادث. وبنا عليه جلست في مكتبي وكتبت ما يلي:
1. القصد: إجراء التنقل لإعادة هيكلة القوات المسلحة خلال 48 ساعة.
2. العوامل المؤثرة:
أ. عدم إخلاء المواقع الأمامية بمواجهة العدو.
ب. تجري إعادة الهيكلة لكافة الوحدات المعنية حسب التوقيت المحددة من القيادة العامة.
ت. استغلال أوقات السير المدني الخفيف لسهولة حركة القوافل العسكرية.
ث. مراعاة عدم تداخل القوافل العسكرية ببعضها خلال عملية التنقل وحصول تأخير طارئ يؤثر على تنقل وحدات أخرى.
ج. فرض حالة الطوارئ في جميع وحدات القوات المسلحة خلال فترة إعادة الهيكلة، والاستعداد لمواجهة أي طارئ.
ح. منع إجازة الأفراد في جميع الوحدات العسكرية خلال فترة التنقل، إلى أن تكمل الوحدات في أخذ مواقعها النهائية.
3. الإجراءات:
أ . استخدام ورق الرسم البياني لبيان تنقل كل وحدة، من موقعها الحالي إلى موقعها الجديد، مبينا عليه التوقيتات المطلوبة، بدلا من جداول التنقل الرقمية.
ب. تحديد وقت البدء بالتنقل في يوم ” ي ” والذي سيحدد في حينه.
ت. شرحت الموضوع للواء الركن عبد الهادي، ولكونه يحمل خلفية هندسية، فقد تفهم الموضوع بسهولة ووافق عليه.
ث. رسمت بيدي الخط البياني لحركة كل وحدة من الوحدات المشمولة على ورقة لكل تشكيلة معنية بالهيكلة، ثم وزعته عليها بتوقيع اللواء عبد الهادي، ويُفترض أن تكون نسخة منه محفوظة الآن في أرشيف مديرية العمليات الحربية.
ج. عندما قرر القائد العام للقوات المسلحة الشريف زيد بن شاكر، تنفيذ إعادة الهيكلة بتاريخ معين، وأبلغني اللواء عبد الهادي بذلك، كتبت كتابا أشرت به إلى كتابنا السابق ويحمل العبارة التالية:
( يوم ” ي ” بتاريخ …… لإجراءاتكم )، فوقعه اللواء عبد الهادي، لتبدأ عجلة إعادة الهيكلة بالدوران.
4. التنفيذ: عندما بدأ تنفيذ إعادة الهيكلة وتُرجم الرمز ” ي” إلى وقت محدد، وضعت أمامي نسخة من جدول الرسم البياني للتنقل، وبدأت أتابع التنفيذ من خلال جهاز اللاسلكي في القيادة العامة. فوجدت بعد 48 ساعة من بدء العملية، أنه قد تم التقيد بما ورد في جداول التنقل بدقة، وأخذت كل وحدة موقعها المقرر، دون أن يقع حادث واحد.