بانتظار إشهار خطة تحديث القطاع العام، التي يبدو أنها تأخرت، خطر لبالي نموذجان، كان لهم النصيب الأكبر من تعطيل حركة إدارة الدولة: نموذج المسؤول المرعوب، غير القادر على اتخاذ القرار، كلما واجهته أزمة هرب منها، وكلما فتح ملفا أعاده للأدراج، خوفا من سطوة الرأي العام، أو من الوقوف أمام هيئة مكافحة الفساد. أما النموذج الآخر، فهو أقل من الأول موقعا، ربما يكون رئيسا لدائرة أو قسم، أو مستشارا أو ذراعا تنفيذيا، ينتظر التعليمات لكي ينفذها حرفيا، لا يجتهد ولا يفكر، وليس لديه استعداد للمناقشة، غالبا ما يتحول إلى عبء على المسؤولين عنه، ويصطدم مع من يتعامل معهم، ثم يفشل بإنجاز أي مهمة. مشكلة النموذج الأول من المسؤولين أنه اقتحم موقعه بالصدفة، أو على مسطرة “الاسترضاء”، أو المقايضة وتبادل المصالح، أو تسلل إليه “بالفهلوة” أو النفاق، بمعنى أنه لا يتمتع بما يلزم من كفاءة وجدارة، ولا يشعر أنه يملأ الكرسي الذي يجلس عليه، وبالتالي يحتاج دائما لمن يتحمل المسؤولية بالنيابة عنه، أو يطبخ له القرار، هؤلاء الشركاء الذين يتولون مهمة إسناده، غالبا ما يتشاكسون داخله، فيحتار لأي مرجعية يستند، ومن يرضي على حساب من؟ مشكلة النموذج الآخر من الموظفين، أنه دخل الوظيفة العامة باعتبارها “بيت أبي سفيان”، لا علاقة له بواجبات الخدمة العامة، ولا يهمه الجمهور، يمارس ما لديه من سلطة وظيفية بصمت، وليس لديه أي رغبة بتطوير مهاراته، يتدرج على سلم الترفيع تبعا لحساب السنوات، ويضع بأعلى درجات اهتمامه رضا المسؤولين عنه، تعليماتهم بالنسبة له أوامر، ولا يتردد، إذا لزم الأمر، بالدخول لطوابق الوشاية لكسب ثقتهم، ومع ذلك أينما يوجه المسؤول عنه لا يأت بخير. من تحت عباءة هذين النموذجين، وغيرهما أيضا، خرجت أشباح الفساد والبيروقراطية، ورداءة الخدمات العامة، وصرخات المظلومية الوظيفية، وتراجعت أخلاقيات الموظف، وانتشرت مهارات النفاق الوظيفي والدسائس والوشايات، ثم خرجت طبقة من المسؤولين “الشطار” الذين قفزوا على المشهد، من خلال بيع الإنجازات، والترويج لها في أسواق الوطنية، لنكتشف أنها مجرد أوهام، وأنهم أحيانا من سلالة الفاسدين. لماذا حدث ذلك؟ الأسباب متعددة، يمكن فهمها بالمقارنة بين واقع الإدارة العامة في بلدنا قبل أربعة أو خمسة عقود، وبين واقعها اليوم، سواء بما يتعلق بقيم أخلاقيات الوظيفة العامة، أو بنوعية الموظفين، وأسس اختيارهم وعلاقتهم مع مجتمعهم.. الخ، لكنْ لدي سببان اثنان ربما يختزلان المشكلة، ولا يمكن للإدارة أن تستعيد عافيتها إلا إذا تجاوزتهما، الأول المحسوبيات، والثاني الوصايات. منظومة المحسوبيات أفرزت النماذج التي أشرت لها سلفا، وكرستها، وحرمت الكفاءات الحقيقية من الوصول للمواقع العامة، أو الاستمرار فيها، ثم جاءت منظومة الوصايات، بما تحتمله من تعدد وتضارب المرجعيات، للإجهاز على الإدارة واستقلاليتها، فأصبح المسؤولون مجرد واجهات لتمرير القرارات، وتحول الموظفون لقنوات ومصائد وعيون مفتوحة على زملائهم. الأخطر من كل ما ذكرت، أن الإدارة العامة، التي عانت، وما تزال، من هذه الإصابات البليغة، تتحمل جزءا من مسؤولية ما طرأ على المجتمع من تحولات سلبية، بثلاثة مجالات على الأقل، الأول اتساع فجوة الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة وإدارتها، والثاني تصاعد حدة خطاب المعارضة باسم المظلومية والفساد، والثالث امتداد عدوى الإخلال “بشرف الوظيفة” إلى الإخلال “بشرف المواطنة”، بما تعنيه المواطنة من احترام للمؤسسية، وبالتالي للمجتمع والدولة، ومن رضى عام، وعدم وجود أي رغبة بالمناكفة، أو اللامبالاة، وربما الانتقام أيضا.