صراحة نيوز – بقلم عوض ضيف الله الملاحمه
معظم الأوطان في عالمنا ترتقي ، وتنهض ، وتزدهر ، لأسباب عديدة جداً يصعب حصرها . لكن أهم عوامل النهوض ، والإرتقاء يكمن في حُسن إنتقاء من يتولون المراكز القيادية الأولى ، في تلك الأوطان . لاننا نعرف دولاً كثيرة نهضت ، وتطورت ، وتسابقت ، وسبقت ، وتجاوزت دولاً كثيرة ، رغم عدم امتلاك تلك الدول لما يساعد على ازدهارها ، لأن الفقر يسحقها ، ولا وجود لثروات طبيعية مطلقاً ، ولا شيء يسند ، ويعضد ، ويساعد على النهوض والإرتقاء وإمتطاء قطار التطور ، والنماء بين دول العالم ، ونورد هنا بعض الأمثلة منها : اليابان ، كوريا الجنوبية ، سنغافورة ، ورواندا .. وغيرها .
الثروة الحقيقية تكمن بتوفر الإرادة بالنهوض ، ثم بعد ذلك تكمن عناصر الإرتقاء والتطور الحقيقية في الموارد البشرية ، وحُسن إختيار القيادات العليا ، لتنتقي الإدارات العليا الكفؤة ، والمنتمية ، مستقيمة النهج ، لان الكفؤ ومستقيم النهج من الإدارات العليا ، سينتقي ما يستقيم مع نهجه من الإدارات الوسطى ، وهنا تكتمل عناصر نجاح المسيرة .
الطبيعة الإنسانية تدعو الإنسان تلقائياً لينجذب الى من يماثله خُلقاً ، وأدباً ، وسلوكاً ، ونزاهة ، وتعاملاً ، او ميلاً للإنحراف او الإبتعاد عنه . لذلك هناك مقولة شعبية تقول : ( قل لي من تُصاحب أقُل لك من أنت )) . وعلم الإجتماع يقول : ( أي مجتمعٍ تعيش فيه ، فانك لا محالة مؤثر ومتأثر ) . لذا فانه من المستحيل ان مسؤولاً نزيهاً ، وشريفاً ، ونظيف اليد ، يستحيل ان يعيّن موظفاً فاسداً ، منحرفاً ، سارقاً . والعكس صحيح ، حيث من المستحيل ان يعين المسؤول الفاسد ، الساقط ، الحرامي ، ان يعين موظفاً يحمل عكس رداءة قيمة ، لانه يُصبح كما الشوكة في حلقة ، حيث يعطّل عليه استغلاله لمنصبه ، والهبش ، واعتبار فترة توليه المسؤولية ( مشمشية ) ، لانه في تسارع وصراع مع الزمن لينهب وينهش كل ما تطاله يده القذرة ، قبل ان يغادر موقعه الذي نهبه ، ولوثه .
عملت مديراً عاماً ل (٦ ) شركات لمدة (١٢) سنة ، في إمارات زايد الحبيبة ، وكنت أُفتش عن الإستقامة والنزاهة قبل الكفاءة . لان الكفاءة يمكن تعويضها بالتدريب ، بينما سوء الخلق وسقوط القيم أغلبه جيني ، لا يمكن تغييره ابداً .
ما يحدث في وطني الحبيب الذي أعشق ، عجيب ، وغريب ، لكن اسبابه واضحة ، وهي عديدة ، منها : من أمِن العقوبة أساء الأدب . فالحكومات ، تأتي بشكل ارتجالي ، وفي غياب كامل لكل الأسس الحضارية المتبعة في دول العالم ، كما انها تأتي دون اية برامج ، ولا تحاسَب اطلاقاً على ادائها اثناء توليها ادارة الوطن . وعليه من يمنع الفاسد السارق من ان يمُد يده القذرة على المال العام !؟ بل انه يستحسنه ، لانه حرامي سوبر ، وفوق القانون فلا شرطة تقبض عليه ، بل لرقي وعلو مرتبته تحرسه الشرطة ، ( ولا شاهي ، ولا ناهي ) ، ولا قيم تردع ، ولا دين يمنع .
حدثني أحد الوزراء السابقين ، قبل اكثر من عقدين من الزمن ، عندما كنت اتحدث معه عمّا يفكر به الوزراء ، بعد اداء اليمين ، والجلوس على كرسي الوزارة ، قال لي : انت وين والناس وين !؟ وأضاف : غالبية الوزراء ، يتنازلون عن شيء بسيط من الكرامة ، والابتعاد عن القيم ليصبح مديراً ، ثم يزيد من تنازله الكثير ليصبح مديراً عاماً او اميناً عاماً ، ويتخلى عن كل الكرامة ، وكل القيم ليصبح وزيراً ، بعدها ، وعندما يحين وقت قِطاف أثمان ما تنازل عنه ، هل توده ان يذهب الى التنظير والقيم !؟ أية قيم يا رجل !؟ مدة الوزارة قصيرة ، وفي مجملها بضعة شهور ، فينقسم اهتمامه الى ثلاثة اقسام ، الاول : محاباة من اوصلوه والتذلل لهم ، طمعاً في البقاء اطول مدة ، وحتى لا يخرج من أول تعديل . والثاني : التنظير والادعاء انه يسعى قدر جهده لخدمة الوطن . والثالث وهو الاهم : عليه ان ينهب كل ما تطاله يده ، خاصة ان فرص النهب تتعدد وتكثُر ، حتى يضمن ان يعيش هو واولاده بمستوى وزير ، وليكون قادراً مادياً ليُكرِّم ويدعو العديد من المسؤولين طمعاً في موقع هنا او منصب هناك بعد الخروج من الوزارة .
هذا الانحدار في مستوى إختيار رؤساء الوزارات والوزراء ، له اسباباً كثيرة اهمها عشوائية ، وفردية الإختيار ، وغياب الإختيار على أساس برامج محددة يتوجب تنفيذها بتواريخ محددة ، وانه سيحاسب عليها حساباً شديداً ، وستتم محاكمته عن أي تقصير . عندنا الرؤساء ، والوزراء ، يأتون ، ويغادرون ، كما تغادر حيوانات السيرك مكان العروض ، يؤدون اكروبات ، وحركات ، وهم منشغلون بما سيأكلون او يهبشون ، وبعدها يكونون قد فازوا بالألقاب الفخيمة ، ورواتب ومزايا وفيرة ، وفي معظم الحالات ، لا يُتركون ، بل يُشغِلون مواقع يتقاضون منها عشرات الألوف ، هذا عدا عما هبشوا ، وسيهبشون ، اما الراتب التقاعدي الذي يبلغ بضعة آلاف ، فيخصص لنثريات الأولاد والبنات .
ونقول كما قال الأعرابي الذي هاجمه قُطاع الطرق وسلبوا إبله فلحقهم وهو يشتمهم دون ان يقاومهم ليسترجع إبله ، وعندما عاد لأهله قال : أشبعتهم شتماً وفازوا بالإبل . حالة الوطن تشبه حالة الأعرابي . فالناس يجهدون لتعرية الفاسدين عبر وسائل التواصل الإجتماعي ، لكن لا أحد يسمع ، ولا نية لتغيير النهج . لكن ، على الأقل من حقنا ان نتساءل : متى تنتهي هذه المغالطات في اختيار الرؤساء والوزراء !؟