صراحة نيوز – بقلم جميل النمري
يجب أخذ مئات الشهادات من الذين صنعوا المشهد في الميدان خلال الأيام الفائتة لوضع الرواية الكاملة لما حدث. من أول مبادرة عند الرابع بإطفاء السيارات ودعوة الإضراب من النقابات. وكنت ذهبت ظهر الأربعاء قبل الماضي لمجمع النقابات وعرفت على الفور أننا أمام شيء جديد. جمهور شبابي نوعي أكبر من جمهور النقابيين وغير جمهور التظاهرات التقليدية من أجل فلسطين.
مساء اليوم التالي، ذهبت الى الدوار الرابع وكان المشهد جديدا ومذهلا بكل معنى الكلمة. من يسوق نظرية المؤامرة ويحيل المشهد الاحتجاجي الحضاري الى خبراء في دوائر خارجية مختصين في استخدام “السوشال ميديا” لتصميم وتسويق الثورات الجديدة ليس أكثر من متفذلك يعكس فقط عالمه الداخلي المأزوم. في الميدان قابلت عشرات الشباب والفتيات أعرفهم شخصيا أو أعرف عائلاتهم لم يشاركوا يوما في مظاهرات. كانوا متحمسين وفرحين وواعين لما يفعلونه، ومثلهم المئات من البيئة الاجتماعية نفسها والطبقة الوسطى، كنا نراهم فرادى غير ذوي صلة واكتشفوا إذ تواجدوا معا كثرتهم الغالبة وقدرتهم على التأثير، وهم لديهم الذكاء والوعي والروح الوطنية والوعي لتقديم أنفسهم كما يريدون.
عمان اليوم ليست عمان الثمانينيات التي لم تحرك ساكنا في “هبة نيسان” العام 89 (اقتصرت على بعض المحافظات وخصوصا الجنوب) وخرج فيها أناس يعبرون عن غضبهم أيضا بالتكسير والحرق للمؤسسات العامة. منذ ذلك التاريخ ومن ثمار الفشل التنموي توسعت عمان بالهجرة من المحافظات وجيل الأبناء المديني هو الذي جاء الى الدوار الرابع مجسدا الروح المدنية والوطنية في آن.
كان تواجد الجميع واعيا ومسؤولا، وتحدثت مع الشباب المتطوعين للتنظيف بين الثانية والثالثة فجرا، لم يكونوا أجراء مدفوعين لتصوير مشهد حضاري، كان منهم طلبة جامعات تفاهموا على ما يجب عمله، مثلما تفاهم آخرون من “شتى الأصول والمنابت” على أنشطة أخرى عبر وسائل التواصل التي أصبحت ساحة كبرى للتخاطب بين شباب لم يلتقوا أبدا من قبل.
الفنانون الشباب جاؤوا بأدواتهم وعقدت مجموعات حلقات الدبكة وجاء كثيرون صبايا وشباب بحطات حمراء رمز الوطنية والانتماء وحب الأردن. والذين يقودون الهتافات يندفعون بمقدار محسوب الى سقوف معينة لإيصال رسالة. وفي لحظات التوتر يتم الذهاب الى نشيد “موطني” وقد تبادل شباب الأدوار في الصف الأول المنهك أمام الدرك، وروى لي أحدهم المفارقات الطريفة في لحظات الاحتكاك. لم يكن هناك مجال لمندسين وزعران وفئات رثّة وأصحاب سوابق يثيرون الشغب والعنف. وتجسد أجمل ما يمكن أن يحدث في الأردن من وحدة وطنية يأتي شباب من الوحدات وحي الطفايلة وكل مناطق عمان. وقيل لي إن أعدادا من جمهوري الفيصلي والوحدات نسقوا الحضور معا وهتفوا ضد سياسات الحكومة. ترك الناس وراءهم الإقليميات التافهة وتوحدوا في الهم الوطني؛ إذ طفح الكيل عند الجميع من السياسات الحكومية. كان عتاقى العمل السياسي والحزبي يتواجدون سعداء ومبهورين ولسان حالهم يقول هرمنا، وفي ذاكرتهم النوع الوحيد من الحشود التي كانت تصطف مثل ميليشيا عقائدية يقودها الإخوان.
حين تقدم الرواية كاملة وعلى لسان من شاركوا في الاحتجاجات التي تدحرجت مثل كرة الثلج وفاقت توقعات أي شخص سنعرف كم كانت الحركة الاحتجاجية أصيلة لم يخطط لها في غرف ولا قادتها جهات بل نشأت في لحظة سحرية سيدة ذاتها لا يمكن توقعها. وسنذهب الى استخلاص المعاني والدلالات في تطور المجتمع الأردني وعلاقته بدولته. وثمة مقولة في الديالكتيك عن اللحظة الفارقة في تحول التراكمات الكمية الى نوعية. والحركة الاحتجاجية مثلت تلك اللحظة الفارقة في التحول عما يطلق عليه الدولة الريعية، ولهذا حديث آخر.