صراحة نيوز كتب الدكتور نوفان العجارمة
لقد أعطى المشرع صلاحية للنيابة العامة ومحكمة الموضوع صلاحية حظر النشر في بعض القضايا المنظورة أمامها، وفي كل مرة يطرح سؤال عريض، ألا يشكل ذلك تعارضا ًمع حرية الرأي والتعبير؟ ويتناقض مع حرية الصحافة والطباعة والنشر التي كفلتها الدولة بموجب المادة (15) من الدستور.
للإجابة على ذلك، لابد من إيضاح الأمور التالية والتي تشكل بالضرورة إجابة على هذا السؤال:
أولاً: لقد كفل الدستور استقلال القضاء، من الناحيتين العضوية والوظيفية حيث:
1. تنص المادة (97) من الدستور على: ((القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون))، كما تنص الفقرة (1) من المادة (101) من الدستور ذاته على: ((المحاكم مفتوحة للجميع ومصونة من التدخل في شؤونها)). فهذه النصوص تفترض أن ضمان استقلال القضاة عاصم من التدخل في وظائفهم تحريفاً لها أو إخلالاً بمقوماتها، وأن القرار النهائي في شأن حقوق الأفراد وحرياتهم، بأيديهم، فاستقلال السلطة القضائية مؤداه أن يكون قضاتها الكلمة النهائية في كل نزاع يعرض عليها، وأن يكون تقدير واقعة النزاع وتطبيق حكم القانون عليها حقاً خالصاً لهم لا يشوبه تأثير، أو إغواء، أو تدخل، أو ضغوط، أياً كان نوعها، أو مداها، أو مصدرها، أو سببها، أو صورتها، مباشراً كان أو غير مباشر.
2. إن استقلال السلطة القضائية، وإن كان لازماً لضمان موضوعية الخضوع للقانون، ولحصول من يلوذون بها على العدالة التي يطلبونها حال وقوع عدوان على حقوقهم أو حرياتهم، إلا أن حيدتها عنصراً فاعلاً في صون رسالتها لا يقل شأناً عن استقلالها، بما يؤكد حقيقة أن حيدة القضاة واستقلالهم مظهران متكاملان فلا ينفصل أحدهما عن الآخر. ولئن كان جانب من الفقه يولوا عنايتهم لاستقلال السلطة القضائية، ولا يتناولون حيدتها إلا بصورة عرضية ويمزجون بينهما أحياناً، إلا أن التمييز بين مفهوم استقلال السلطة القضائية وحيدتها يتعين أن يكون فاصلاً بين معنيين لا يتداخلان، ذلك أن استقلال السلطة القضائية يعني أن تعمل بعيداً عن أشكال التأثير الخارجي التي توهن عزائم رجالها، فيميلون معها عن الحق إغواءً أو إرغاماً، ترغيباً أو ترهيباً. فإذا كان انصرافهم عن إحقاق الحق وإنفاذه، تحاملاً من جانبهم على أحد الخصوم، وإنحيازاً لغيره، لمصالح ذاتية أو لغيرها من العوامل الداخلية، كان ذلك منهم تغليباً لأهواء النفس، منافياً لضمانة التجرد عند الفصل في الخصومة القضائية، مما يخل بحيادهم.
ان استقلال السلطة القضائية واستقلال القضاة، وإن كفلهما الدستور، توًقياً لأي تأثير محتمل قد يميل بالقضاة عن ميزان الحق إنحرافاً، فالدستور ينص على انه ( لا سلطان على القضاة في قضائهم لغير القانون) وهذا المبدأ لا يحمي فقط استقلال القضاة، بل يحول كذلك دون أن يكون العمل القضائي وليد نزعة شخصية غير متجردة. ومن ثم فأن حيدة القاضي شرطاً لازماً دستوراً لضمان ألا يخضع القاضي في عمله لغير سلطان القانون.
3. إن القيود التي فرضها الدستور على المُشرع لحماية استقلال السلطة القضائية وحيدتها لا يجوز الخروج عنها. ويعتبر إخلالاً بحيدة المحكمة أن تقوم بين أحد قضاتها وبين المتهم الماثل أمامها أو أحد الشهود عداوة أو مودة لا يستطاع معها – في الأرجح – الحكم في الخصومة الجنائية بغير ميل – إيجابياً كان أم سلبياً، ذلك أن ميزان الحق لا يستقيم مع وجود ميل يكون عاصفاً بالحق، أو مقيداً من محتواه، ولو لم تصل العداوة إلى حد الخصومة الجارحة، ولا المودة إلى حد مؤاكلة المتهم أو أحد الشهود أو قبول قضاتها هدايا منهم أو مساكنتهم، سواء كان ذلك قبل رفع الدعوى الجنائية أو بعدها. فلا يشترط في المودة أن تدل القرائن على متانتها ووثاقتها، ولا أن تكون العداوة جامحة في عمقها وشدتها، بل يكفي أن تقوم المودة أو العداوة في نفس القاضي إذا كان من شأنها انحرافه بسببها عن ميزان الحق.
ثانياً: وسائل الصحافة والإعلام بشكل عام ووسائل التواصل الاجتماعي بشكل خاص، لها تأثير مباشر على حيدة المحكمة واستقلالها ومن خلال:
1. إن حيدة المحكمة – السالف بيانها – قد يشوهها رصد أجهزة الصحافة والإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي على الأخص– لكل ما يدور بها إلى حد التغطية الشاملة لواقعها بما يؤثر في أغلب الأحوال – على نوعية الشهود الذين يمثلون أمامها، وكذلك على نوع شهادتهم التي يدلون بها، وعلى الأخص إذا كان بعض الشهود خجلين بطبيعتهم أو كانوا من الذين تعجبهم صورتهم عند نشر وسائل الإعلام لها أثناء شهادتهم. فالخجلون من الشهود مترددون بطبيعتهم ويزداد ترددهم إذا بان لهم بأن وسائل الإعلام تنقل شهادتهم. ومن يعجبهم التظاهر تباهياً بنشر الإعلام لصورهم، إذ غالباً ما يركزون على أوضاعهم أثناء الشهادة أكثر من التركيز على مضمونها والإدلاء بما سمعوه أو عرفوه عن الجريمة أو شاهدوه أثناء ارتكابها؟؟
2. وكلما كان المتهم شخصية عامة لها دورها المشهود في العمل العام أو كان لها شهرتها في مجال الجريمة أو كان قد أتقن التخطيط لها أو برع في تنفيذها أو كانت الضحية شخصية عامة، فإن قضاة الحكم – في أغلب الحالات – لا يركزوا في أذهانهم على الواقعة محل التجريم، بعد أن شتتها وسائل الإعلام المتزاحمة على نشر كل تفصيلاتها والطاغية في قوة تأثيرها، فإن محاكمة المتهم عن هذه الجريمة تتخذ صورة شكلية مجافية لإنصافه، خصوصاً إذا إنفلت الرأي العام من عقاله وأصبح يعمل محاكمات شعبية للمتهمين.
3. ومما ينال من حيدة المحكمة كذلك، أن تفرض الجماهير نوعاً من السيطرة (على الأقل السيطرة الذهنية) من خلال آرائهم التي يعبرون بها عن سخطهم من الجريمة ومن شخص المتهم، وثورتهم على مرتكبيها وهياجهم داخل قاعة المحكمة وخارجها طلباً للقصاص منهم والتنكيل بهم، ولو عن طريق منشورات ورسائل يرسلونها إلى العامة، فمن شأن هذا التأثير أن يفقد المتهمين اطمئنانهم، وأن يعجز الدفاع عن أن يقدم لهم المعاونة الفعالة التي يتوقعونها وأن يتضاءل بالتالي احتمال الحكم ببراءتهم؟؟
4. إن الجماهير الغاضبة قد تشكل معولاً لهدم الحقيقة القضائية التي توازن – في محصلتها النهائية – أدلة الجريمة بتلك التي تنفيها، وتقابل شهادة الشهود ببعضها، وترجح ما تراه صائباً منها، فلا يكون الحكم ملوناً بأجواء ملبدة، فرضها الرأي العام على المحكمة بقصد توجيهها وجهة بعينها تقدر هي صوابها، بعد أن طبعتها بتصورها الخاص، بعواطفها المتأججة ونزوعها إلى التأثر من المتهمين، وهو ما ينافي حقيقة أن كل اتهام جنائي يقتضي تحقيقاً هادئاً يوزن فيه كل دليل بقدره فلا تؤثر فيه عوامل لا صلة لها به، ويندرج تحتها تلك الأجواء الصاخبة التي تحيط بالمحاكمة، والتي يتعين على المحكمة أن تبذل جهدها لإجهاضها بما يكون ملائماً من التدابير، والتي منها حظر النشر في مثل هذا النوع من القضايا، وحجب كل من له صلة في هذه القضية عن الاتصال بوسائل الإعلام على اختلافها، أو تقييد المعلومات التي تنشر بشأن هذه الجريمة وعلى الأخص المعلومات التي تنقل عن المحامين والنيابة العامة، وذلك حتى يتوافر للمتهمين الحد الأدنى من الحقوق التي كفلها الدستور لهم، ويأتي على رأسها الحق في محاكمة عادلة خالية من المؤثرات مهما كان نوعها.