في كتابه ” القرار ” يقول رئيس الوزراء الأردني السبق، دولة السيد مضر بدران ما يلي وأقتبس : ( الفساد آفة الحكومات، ومتى توغل في الجهاز الإداري الحكومي، تكون النهاية قد اقتربت. فإذا غابت جهود مكافحة الفساد، فاعلم أنك كمسؤول تشارك بالفساد، حتى لو لم يدخل جيبك قرش واحد ).
لقد كان هدفنا منذ اليوم الأول في العمل الحكومي، أن نبتعد عن هذه الشبهات، وأنه يجب أن يكون الجهاز الإداري الحكومي، نقيا من مثل هذه التُهم، لأنها تُهم لا تُفقد المواطن الثقة بالدولة فحسب، لكنها تجعل المواطن فاسدا أيضا، لا يعترف بقانون، ولا يعترف بمسؤول يطبّق القانون.
في تلك الفترة وقبل استقالتي من الحكومة الثانية، رويت للراحل الحسين حادثة حصلت معي عندما كنت أعمل مشاورا عدليا، وقلت له أن العرض جاءني وأنا ضابط في الجيش باللجوء إلى سورية، في ذلك الزمن كان العرض مغريا، فخطيبتي في دمشق، وزواجي بها وإقامتي في شقّة فارهة، وراتب يزيد على راتب المدرّس الجامعي، كانت مغريات من شأنها أن تُحدث منافذ لانهيار الجيش، حتى في أصغر المواقع، ومع ذلك بقيت في بلدي . . .
وتابعتُ القول للراحل الحسين، أمّا إذا سلّمت البلد لفاسدين، فإني سأترك الأردن وسألجأ إلى بلدٍ ثانٍ، لأني لا أحبّ أن أرى بلدي ينهار، لأن الفساد سيتسبب في إسقاط النظام، وقلت : ( ها أنا أستأذنك سيدي، لأنني بعد الفساد لن أستأذنك المغادرة ).
كما ذكّرت الراحل الحسين، بما قاله في الاجتماع الأول الذي رأيته فيه، وقال عن الوجوه الجديدة التي ستحل محل الوجوه التقليدية، وقلت له أن هذا التغيير لوصفي، بعد أقل من سنة وثلاثة أشهر لن يأتي بالاستقرار للبلاد، وأنه بتغييره المتكرر لرؤساء الحكومات، لن يصنع استراتيجيات الخدمة العامّة، على أسس المحاسبة والمتابعة والمكافأة أيضا. قلت للحسين هذا الكلام بعد أن استَنزَفتْ منا مكافحة الفساد في الحكومة الثانية وقتا طويلا، حتى صرنا نتابع أصغر قضايا الرشوة، ونحاسب من يقترف هذا الجرم.
وقبلت تحدي الكثيرين بأني سأفشل في وقف هذا الفساد، ومضيت في عملي لأكثر من ثلاث سنوات، حتى جاءني أحد الوزراء، وقال أن صديقا له وهو رجل أعمال، زاره وقال له أنه كان يدفع رشوة سنويا، لمسؤولين كي يسرّعوا في معاملاته، حتى دخل مكتب أحدهم مؤخرا، فعرض عليه مبدأ الرشوة، فقال : ( ما دام مضر بدران على كرسيه في رئاسة الحكومة إياك أن تعيد ما قلته ).
لقد أسس للأمر عبد الحميد شرف، وجئت من بعده، واستكمل أحمد عبيدات في حكومته هذا الجهد، وقد استطعنا في تلك الفترة استعادة الثقة بالجهاز الإداري الحكومي والرسمي. لا أقول أننا قضينا على الظاهرة، ولكن أقول أننا كافحناها بجديةٍ حقيقيةٍ “. انتهى الاقتباس.
* * *
التعليق : هؤلاء هم الرجال الذين خدموا الأردن بإخلاص، وكانوا الناصحين لرأس الدولة، حيث أنهم حافظوا على كيان الدولة، وعملوا على تنظيف الجهاز الإداري من الفساد والفاسدين، وأعادوا الثقة بمسؤولي الدولة بصورة حقيقة، وليس بكلام فارغ كما يحدث هذه الأيام. وفي هذا السياق، أرجو من عقل الدولة أن يستمع للمستثمرين وأصحاب الشركات والمصانع الكبيرة والصغيرة، الذين أغلقوا مؤسساتهم وهاجروا خارج البلاد، عن سبب هجرتهم، ليعرف أن سببها الأساسي هو الفساد ومن ضمنه الضرائب العالية.
كما أرجو من ذلك العقل إن كانت تهمه مصلحة الوطن، أن يتجول في المدن والقرى في مختلف ساحات مناطق الأردن، ليرى المتاجر والدكاكين الصغيرة التي أغلقت أبوابها، وفقد أصحابها مصادر رزقهم. وهذا حصل ويحصل نتيجة للترهل والفساد الملحوظ، في أجهزة الدولة الإدارية الرسمية أو الخاصة، ويعاني المواطنون منها في أبسط معاملاتهم. فهل من منقذ يسلك أسلوب مضر بدران ورفاقه، في مكافحة الفساد عملا لا قولا للاستهلاك المحلي، حفاظا على الوطن من الخراب والسقوط في نهاية الأمر ؟