صراحة نيوز – كتب الدكتور رجائي حرب
منذ أول أمس وأنا أشعر بالخجل والامتعاظ من بعض الذين يدعون أنهم مفكرين وإعلاميين وقنوات فضائية وسياسيين عرب وهم يمجدون الراحلة الملكة اليزابيث الثانية ملكة بريطانيا على مدى سبعين عاماً مضت؛ قافزين بذلك عن قواعد الدبلوماسية والبروتوكول السياسي؛ ومبالغين جداً لدرجة أنهم أظهروها وكأنها كانت تطعمنا وتسقينا وتحيينا وتميتنا وتسهر على مدار مدة حكمها حتى تجعلنا بأفضل حال أشعر بالخجل منكم أيها السادة – مع احترامي للموت – وعدم الشماتة بأي أحد حتى لو كان ألد أعدائي؛ ولكن المبالغة في التبجيل والاسهاب في النفاق فهذا غير مقبول، ويخرج عن حدود الأدب والسياق الإنساني الذي يوجب وضع الأمور في مساراتها الصحيحة؛ وأن لا ننسى ونحن نكتب أو نتكلم أو نعرض على الشاشات أو وسائل التواصل الاجتماعي أن الله يراقبنا وأن كلماتنا معدودة علينا ومحاسبون عليها يوم القيامة ماتت الملكة وسقط جسر لندن حسب كلمة السر الدالة على موت الملكة في بريطانيا ولكن لم تسقط رجولتنا ولم يسقط حقنا المعلق في رقبة كل الساسة البريطانيين منذ بداية التآمر على أمتنا ودولنا وشعوبنا وماضينا ومستقبلنا سقط جسر لندن ولم تسقط الجرائم التي ارتكبها الانجليز ضدنا بالتقادم منذ ذلك المؤتمر الذي دعا إليه رئيس وزراء بريطانيا عام 1907 كامبل بنرمان وسمي بمؤتمر كامبل؛ والذي قرروا فيه خلق إسرائيل ودقها إسفين موت في قلب أمتنا العربية حتى نبقى في حالة ضعف إلى يومنا هذا سقط جسر لندن ولم يسقط من ذاكرتنا خيانة الانجليز للشريف حسين بن علي بعد مراسلات مكماهون والتي تعهدوا فيها بمساعدته الشريف حسين على إقامة المملكة العربية المتحدة بعد انتهاء الحكم العثماني لنجدهم يفاجئون العرب بمخططاتٍ قذرة ما زلنا نعاني منها حتى يومنا هذا سقط جسر لندن ولم تسقط من ذاكرتنا مخازي وعد بلفورد الذي منحه وزير خارجية بريطانيا آرثر بلفور إلى اللورد ليونيل دي روتشيلد أحد أبرز أوجه المجتمع اليهودي البريطاني لنقلها للاتحاد الصهيوني ودعم تأسيس وطن قومي لليهود على أرض فلسطين الحبيبة المباركة سقط جسر لندن ولم يسقط من تاريخنا المحزن تلك الاتفاقية عام 1916 التي وقعها عميد السياسة البريطاني مارك ( سايكس ) والدبلوماسي الفرنسي فرانسوا جورج ( بيكو ) وبمصادقة الامبراطورية الروسية وإيطاليا على اقتسام الهلال الخصيب بين فرنسا وبريطانيا في الحرب العالمية الأولى؛ وتحويله إلى أربع دول هي الاردن وسوريا وفلسطين ولبنان، في الوقت الذي كانت مراسلات مكماهون تعطي الوعود للشريف حسين بن علي لإنشاء المملكة العربية سقط جسر لندن ولم يسقط من كتب تاريخنا كيف اعترض المندوب السامي هربرت صموئيل في القدس القوات العربية التي كان يقودها الأمير عبدالله بن الحسين بعد انكشاف الخداع البريطاني لوالده ومنعه من الذهاب لمساعدة أخيه الملك فيصل في دمشق في حربه ضد الاستعمار الفرنسي سقط جسر لندن ولم يسقط من ذاكرتنا وقصصنا التي سمعناها من معلمينا وأجدادنا ومجالسنا التي كانت تعج بالكرامة والثقافة والعزة والشهامة، عندما كانوا يتحدثوا لنا عن الكابوس البريطاني الذي جثم على صدورنا لأكثر من مئتي عام، حين قَتَلوا ونَهبوا وخرَّبوا ودنَّسوا كل ما وصلت أيديهم وأرجلهم إليه حتى بنوا بالجماجم تاريخاً أسوداً سالت بسببه أنهار الدم وغطت شوارع القدس وساحاتها وأحياء عمان الوادعة الجميلة من هول الفتن التي زرعوها بين الإخوة والجيران الذي ناموا بسلامٍ واستيقضوا على فتنة كادت تحرمنا من العيش مع بعضنا بسلام سقط جسر لندن ولم ولن يسقط يوماً من ذاكرتنا الجمعية كيف أحرقت بريطانيا وحلفائها الأخضر واليابس في بلاد الشام بأسرها، ونهبوا كل ما استطاعوا نهبه، وأهانوا كل من قدروا على إهانته، ودنّسوا كل شيء أَمْكَنَهم تدنيسه؛ وكيف أيقضوا كل فتنة ودسيسة ومكيدة ومؤامرة كي يؤلبوا العرب على بعضهم وينكسروا كما تنكسر الفخارة التي سقطت من يد ساهٍ لاهي سقط جسر لندن ولم يسقط من كتب التاريخ التي تربينا عليها وقرأناها في زمن التعليم المؤدب والتثقيف الحقيقي لأبناء المستقبل زمن السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي كيف أن الاستعمار البريطاني المباشر أدخل أمتنا في صحراء تيه وضياع وفرقة وضعف وشتات في كل مجال من مجالات الحياة؛ وكيف طبق في عمق إنساننا العربي سياسة ( فرق تسد ) التي هدم من خلالها كل المُثُل والقيم والمباديء التي كانت تغذي مجتمعاتنا وتقودها للمستقبل المشرق؛ وكيف أوهموا عامة الشعوب العربية من البسطاء بضرورة خلع المضلة الكبيرة التي كانت تغطينا جميعاً من عرب ومسلمين؛ فانكشفت سوءاتنا وتفسخنا لمسلمٍ ومسيحي، وسني وشيعي، وكردي وفارسي عربي وشيشاني وشمالي وجنوبي الخ … سقط جسر لندن ولن يسقط من ذاكرتنا أن بريطانيا هي التي غرست إسرائيل كسرطانٍ خبيثٍ وخنجرٍ مسموم في أحشائنا، وساعدتهم في تنفيذ كل جرائمهم ومذابحهم ضد إخوتنا الفلسطينيين وضد كل بلدٍ عربي دخلوه وعاثوا به فساداً، ولن يسقط من ذاكرتنا الجمعية دموع الامهات الثكالى اللواتي فقدن أزواجهن وأبناءهن وهم يدافعون عن صيرورة الشرف العربي ولن يسقط من ذاكرتنا كل لحظة عانينا بها من جرائم العدوان الصهيوني المدعوم بريطانياً ومغطى دولياً في كفرقاسم والسموع والقدس وطير حيفا وقانا وصبرا وشاتيلا والعراق وسوريا ودفرسوار في مصر، ولن ننسى الآلام التي نامت عيونٌ عربيةُ كثيرة وهي تتألم بسببها وتبكي أحبتها وتطول قائمة الدسائس التي يقدمها المندوب السامي البريطاني المخفي في سراديب بلداننا التي تصيغ سياساتنا كل يوم، لقتل قدوة صالحة، أو اعتقال كاتب يدعو لوحدة الأمة، أو إغلاق قناة فضائية تكشف سوءة الاستعمار المعاصر، أو تصفية مرشد يدعونا للعودة إلى الصراط المستقيم؛ صراط الذين أنعم الله عليهم بالوحدة والتقوى والتمسك بما أمر الله به أن يوصل، لا صراط المغضوب عليهم والضالين حتى غدونا جموعاً لا تهتدي إلى سواء السبيل أعرفتم لماذا أشعر بالخجل يا من بالغتم بمدح الملكة الراحلة ؟ أعرفتم لماذا أشعر بالامتعاظ منكم؟ أعرفتم لماذا أشعرني مديحكم بالغثيان؟ لأنكم نسيتم قضايا أمتكم أمام طمعكم وأنانيتكم وسعيكم للتزلف على الأبواب من أجل منصبٍ أو ترقيةٍ أو حفنة مال أو رضا زائف لأنكم خرجتم من عباءات أمتكم وشرقيتكم وعروبتكم ومبادئكم من أجل الظهور الخاطيء والرقص على جراح الأمة التي تئن بسبب أفعالكم وتقديمكم لقواعد الدبلوماسية على حساب جراح أمتكم النازفة منذ زمن طويل إننا أمة لا نشمت بميت ولا بانكسار كبير، لأننا نعلم أن لكل بداية نهاية، وأن قدر الله نافذ في كل الأشياء؛ فلا الظلم مخلَّد ولا الاستعلاء ولا الاستكبار دائم، ولكن آن الأوان كي نستيقظ من سباتنا، وأن نستحضر في ذاكرتنا مَنْ تسبب في مآسينا ونحن نمتدح مَنْ كان سبباً فيها، وأن نكون أمناء على ما نقدمه لأبنائنا الذين لا يعلمون عن ماضينا شيئاً بسبب سياسة التجهيل المبرمج لأبنائنا، وأن نكون صادقين معهم ليتعلموا الصدق بتقليدنا، ويتعلموا الشجاعة بالخبرة، والكرامة بالممارسة، وأن نقدم لهم ما يجعلنا نستمر في قادم الأيام من خلالهم، ويجعلنا نقدم لأجيالنا القادمة الصدق في الكلمة والموقف والمبدأ لننال أجر الناقل الصادق والصابر الواثق بوعد الله … وعندها سنكون قد أديّنا رسالتنا في هذه الحياة ولم نخدع شعوبنا بنفاقنا وتزلفنا على أبواب النفاق، فنسقط ونُسقطهم معنا…. وعندها سنكون قد أدينا الأمانة ونصحنا الأمة … وبالنسبة للملكة الراحلة ولمملكتها التي ما زالت على قيد الحياة وتستبضع في جسد الأمة صباح مساء، فهناك يوم لا يُظلم فيه أحد، وسنلتقي أمام الديَّان الذي لا يموت وعنده تجتمع الخصوم … ولا حول ولا قوة إلا بالله