صراحة نيوز – بقلم موسى العدوان
بعد انتصار الحلفاء على دول المحور في الحرب العالمية الثانية، تقاعد المارشال مونتغمري من الجيش البريطاني، وراح يقوم بزيارات لقادة وزعماء العالم في الشرق والغرب. كان من بينها زيارته للزعيم الهندي نهرو، وها هو يتحدث عنها كما يلي :
” وصلتُ إلى نيودلهي في ساعة مبكرة، وكان ذلك في أحد أيام شهر ديسمبر سنة 1951، وتقابلت مع الأسرة على مائدة الإفطار. وفي طريقي إلى الجناح المخصص لي، لاحظت جمعا غفيرا من الناس يجلسون على الأرض في صفوف منتظمة أمام المنزل. وعندما سألت نهرو تفسيرا لذلك، أجابني بأن ما رأيته هو منظر يتكرر كل يوم، إذ المعروف أن من يفد إلى دلهي من الفلاحين والطلبة وغيرهم، يستطيع أن يراه إذا لم يكن غائبا عن المدينة، فيخرج إليهم في الساعة 6,30 من صباح كل يوم.
وأضاف قائلا على طريقته : أنا كما ترى أحد معالم نيودلهي. فطلبت منه أن أصاحبه عندما يخرج للقاء الشعب. وقد كنت موفقا إذ طلبت منه ذلك، فقد أتيح لي أن أرقبه عن كثب، وأعرف جانبا هاما في شخصيته، قلما يظهر في غير هذه الظروف. بدأ هذا اللقاء بأن سار خلال تلك الصفوف، والتي كانت تجمع بين النساء والرجال والأطفال، وكان يتحدث إلى بعضهم هنا وهناك، بينما يقوم البعض الآخر بإحاطة عنقه بالزهور، والتي كان بدوره يلقي بها إلى الأطفال الذين كانوا يتلقفونها بمزيد من الحماس.
وكانت تثير دهشتي الطريقة التي ينظر بها كل فرد إلى نهرو، عند اختراقه لهذه الصفوف، فقد كانت العيون تحملق فيه وترقبه في خشوع وإجلال. وقيل لي أن نهرو يُقابَل بهذه الصورة أينما ذهب في أنحاء الهند. وقد حدث قبل وصولي إلى نيودلهي بأيام، أن توجه نهرو إلى بومباي لافتتاح معهد علمي، ثم توجه في مساء نفس اليوم إلى مكان يجاور ملعبا للكريكت، حيث كانت تقام مباراة في هذه اللعبة الشعبية، بين الفريق الهندي والاسترالي كان يشاهدها جمهور غفير.
والذي حدث أن الجمهور عندما علم بوجود نهرو في مكان قريب من الملعب، هرع الجميع تاركين الملعب لرؤيته، فلم يبقَ في الملعب متفرج واحد. وقد استمرت المباراة بعد ذلك ولكن بلا جمهور.
والاستماع إلى نهرو وهو يتحدث إلى الشعب المتجمع أمام منزله كل صباح، هو من الأمور الساحرة. ولما كنت قد تعلمت اللغة الهندستانية أثناء إقامتي في الهند سنة 1908، فقد كنت أرقبه باهتمام بالغ. فكان يتحدث إليهم ببساطة : فيطرق الموضوعات العلمية مع الطلبة، ويتحدث في الزراعة مع الفلاحين وهكذا. وكانت مبادئ نهرو هي نفس مبادئ غاندي، إذ كرّس حياته لدراسة المشاكل التي تواجه الملايين من أفراد الشعب الهندي، فأحبه الجميع ومنحوه ثقتهم ووقفوا وراءه كتلة واحدة.
وكان نهرو يشعر بقوته كزعيم سياسي يقف الشعب من ورائه، كما كان يدرك مشاكل الزعامة ومصاعبها. وقد تحدث عن هذه المصاعب وأوضح بأن على الزعيم أن يمارس سلطاته بشجاعة، ولكن بالقدر الذي يتحمله الشعب، وإلاّ امتنع عن تنفيذ قراراته المجحفة، التي تكون نتيجتها الحتمية هي سقوط هذا الزعيم. ولذلك فلابد له أن يمارس الزعيم سلطاته ويتخذ قراراته بطريقة تقنع الشعب، وهكذا كان يفعل غاندي. فقد نجح في توجيه الشعب بطريقة الإقناع، وكان لإخلاصه وأمانته الأثر الأكبر في إقناع هذه الملايين بقراراته.
ولهذه الأسباب وربما لأسباب أخرى، كانت وجهة نظر نهرو ترتكز على أن الزعيم الوطني، لابد له أن يحسب حساب المشاكل الداخلية، ويضعها دائما في المركز الأول من اهتمامه، دون أن يُهمل السياسة الخارجية، وإن كان أغلب الزعماء يعملون على عكس ذلك، فهم يخصصون معظم وقتهم للمسائل الخارجية، ولا تظفر المسائل الداخلية إلاّ بنصيب محدود منى اهتمامهم.
كذلك فهو يرى مثلي أن الوزراء لا يمنحون أنفسهم، الوقت الكافي للتفكير فيما يهم الشعب الذي يمثلونه، في البلاد التي تطبق الديمقراطية البرلمانية. وقد اخبرني نهرو أنه سأل مؤخرا وزرائه، عما إذا كان يستطيع أن يترك رئاسة الوزراء لفترة معينة ولتكن لمدة عام، حتى يجد الوقت الكافي لتجديد صلته بالفلاحين في القرى، أو كما قالها بطريقته : ” لإعادة شحن بطارياتي ” بعد أن وعدهم بأ ن يعود إلى رئاسة الوزراء إذا ما رغبوا في ذلك، عند انتهاء هذه الفترة. ولكن زملاؤه رفضوا هذه الفكرة، واضطر هو إلى الأخذ بوجهة نظرهم. وقد أبديت له رأيي في ذلك، بأنه ربما كان رفضهم لهذه الفكرة، يرجع إلى الصعوبة التي واجهتهم، عندما فكروا في اختيار خليفة “. انتهى. * * *
التعليق : لقد تحدث المارشال مونتغمري في كتابه ” الطريق إلى القيادة ” الذي صدر في أواخر عام 1966، وكأنه يعيش أيامنا هذه. فقد وصف الزعيم الهندي نهرو على طبيعته، وبين أن زعماء الماضي كانوا قريبين من شعوبهم ويمكن مشاهدتهم مباشرة، وأنهم يتحدثون لغتهم، ويستشعرون حاجاتهم.
وهذا ما يخالف صفات معظم زعماء العالم الثالث هذه الأيام. فهم في الواقع بعيدون عن شعوبهم، ولا يتحدثون لغتهم، ولا يشاهدهم مواطنيهم إلاّ من خلال شاشة التلفزيون، وفي أعمالهم فهم يؤثرون الاهتمام بالقضايا الخارجية، على حساب معاناة شعوبهم في القضايا الداخلية والمعيشية.
في الختام لا يسعني إلاّ القول : رحم الله غاندي ونهرو ومونتغمري ومن هم على شاكلتهم، بقدر ما قدموا من خدمات مخلصة لشعوبهم، بغض النظر عن أعراقهم ودياناتهم.
التاريخ : 7 / 8 / 2021